د. محمد عبدالله الخازم
تختلف وجهات النظر حول بدايات ما عرف بـ»الصحوة» وتاريخها، لكن الأرجح أن بذرتها الأولى كانت نتاج التحول نحو الأيدلوجية الدينية الناشئة كمقاوم للأيدلوجيات القومية والبعثية والاشتراكية وغيرها، وقد أسهم في ذلك التحول الإخوان المسلمين الذين استقطبوا من دول مثل مصر وسوريا ومنهم تطور المفهوم الأيدلوجي أو الحركي في النهج السلفي. علماً بأن النهج السلفي هو ما يميز المملكة منذ نشأتها، بدليل إشارة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- إلى ذلك بقوله «نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح» [الفارسي، فؤاد (1991م). الأصالة والمعاصرة: المعادلة السعودية].
وقبل طرح فكرة البديل، يجدر بنا قراءة أهم ما حدث وأسهم في نشوء الصحوة، وفي ظني أن هناك ظواهر صاحبت تحول المد الديني إلى متشدد وذي أيدلوجية وليس مجرد ممارسة تعبدية فردية؛ الأول: هو دخول الفكر الحركي الإسلامي المعروف بفكر الإخوان المسلمين للبلاد وتغلغله بالذات في التعليم، حيث إن أقطابه القادمين من مصر وسوريا وغيرها التزموا بتجنب العمل السياسي ضد بلدانهم، لكنهم نشروا فكرهم في الأوساط التعليمية والثقافية السعودية.
الثاني: هو تحول السلفية إلى أيدلوجية -أو تعمق الرؤية الأيدلوجية في الممارسة السلفية- وليس مجرد ممارسة دينية وفق شروط تحول الدين إلى أيدلوجية بادعاء احتكار الحل الأوحد والأمثل ومحاربة الحلول والمذاهب والطوائف الأخرى.
الثالث: إلغاء مؤسسات المجتمع المدني أو بذراتها التي بدأ تأسيسها في عهد الملك عبدالعزيز.
الرابع: هو تداعي مفهوم القبيلة أمام تأسيس الدولة الحديثة ذات الوحدة الوطنية وأمام المد التمديني والصناعي. ونقصد بالقبيلة هنا وحدتها كرابطة إدارية/ سياسية وليس بعدها الاجتماعي، حيث قيمتها الاجتماعية ما زالت قائمة.
إذاً فُسح المجال أمام غرس رابطة أحادية تجمع الناس بشكل أكبر، أو ينتمي لها الناس باعتبار الإنسان كائنًا انتمائيًّا لا بد له من رابطة أو جماعة أو فئة ينتمي إليها. تلك كانت الرابطة الدينية التي سميت لاحقاً بالصحوة أو التشدد وأدلجة الدين، مع تحجيم مجالات الانتماء الأخرى التي يمكن لها موازنتها أو منافستها، مثل مؤسسات المجتمع المدني أو القبيلة أو غيرها.
الآن يجري تفكيك الصحوة وتخفيف حدة أيدلوجية التشدد التي ترفض ما سواها وهذا يعني السعي نحو خلق بديل لها. يجري الحديث عن مصطلحات عائمة مثل الاعتدال والوسطية كبدائل، وبغض النظر عن أين نذهب في هذا الشأن، فإن الأمر يتطلب إيجاد المؤسسة أو التنظيم المناسب الذي يمكن للناس الانتماء إليه، حيث أننا قد ننساق إلى احتمال العودة للقبيلة أو ننساق نحو أيدلوجية متطرفة أخرى ولست أتوقع أننا نرغب في الاثنتين. هنا، يبقى البديل المؤسسي الحديث والأفضل هو تأسيس وتنمية مؤسسات المجتمع المدني، الذي كان لدينا بعض مظاهره قبل نشوء الصحوة. مؤسسات المجتمع المدني وفق قوامها وأسسها الحديثة المتمثلة في المشاركة والاستقلالية، هي الروابط التي تقوم عليها الدول الحديثة ومن خلالها يجتمع الناس أو ينتمون لمؤسسات ليست ذات بعد قبلي أو ديني بحت، بل وفق تنظيماتها المدنية والقانونية تتكون مرجعيات علاقاتهم المختلفة.