عبدالعزيز السماري
قبل ما يزيد قليلاً عن 50 عامًا، أطلق عالم الأنثروبولوجيا الكندي المولد أنتوني والاس بثقة بالزوال العالمي للدين على أيدي علم متطور: الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة مصيرها الموت، في جميع أنحاء العالم، باعتباره نتيجة لزيادة كفاية ونشر المعرفة العلمية.
لكن هذا ببساطة لم يحدث ولن يحدث، وقد تكون حالة الولايات المتحدة مفيدة للجميع، حيث يمكن القول إن الولايات المتحدة هي أكثر المجتمعات تقدمًا من الناحية العلمية والتكنولوجية في العالم، لكنها في الوقت نفسه أكثر المجتمعات الغربية تديناً، وقد أوجزها عالم الاجتماع البريطاني ديفيد مارتن في «مستقبل المسيحية» (2011): حيث قال «لا توجد علاقة ثابتة بين درجة التقدم العلمي وتقلص صورة التأثير الديني والمعتقد والممارسة».
تصبح قصة العلم والعلمنة أكثر إثارة للفضول عندما ننظر إلى تلك المجتمعات التي شهدت تقلبات، حيث دافع أول رئيس وزراء للهند جواهر لال نهرو عن المثل العلمانية والعلمية، ودخل التعليم العلمي في مشروع التحدي، وكان نهرو واثقًا من أن الرؤى الهندوسية لماضٍ فاسد وأحلام إسلامية من ثيوقراطية إسلامية سوف تستسلم للمسيرة التاريخية العنيدة للعلمنة، قال وقتها «هناك حركة مرور في اتجاه واحد فقط في الوقت المناسب». لكن كما كان الارتفاع اللاحق للأصول الهندوسية والإسلامية يشهد بشكل كاف، لكن كشف التطورات التاريخية أن كان نهرو مخطئًا في تنبؤاته تقدم تركيا قضية مشابهة، فقد كان مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، علمانيًا ملتزمًا، واعتقد أتاتورك أن العلم كان مقدرًا لتهجير الدين، وأعطى العلم، وخاصة البيولوجيا التطورية، مكانة مركزية في نظام التعليم الحكومي في الجمهورية التركية الناشئة، لكن ذلك توقف عند نقطه محددة، وتراجع الأمر مرة أخرى إلى نقطة التوازن والحياد في تركيا بين العلم والدين..
كان الخطأ في استخدام العلم كأداة لمحاربة الدين، وهو ما حول الأمر إلى صراع أيدولوجي، وهو ما يخالف المكانة الحقيقية للعلم، والذي يتحرك ببطء شديد في العالم، وما زال لا يستطيع تقديم الإجابات عن أغلب الأسئلة، لذلك لن يتأثر الدين، ولن يقلّل العلم من مكانته ووجوده، فالصراع التاريخي هو ليس بين الدين والعلم، ولكن بين القوى العلمانية ورجال الدين، وكلاهما يسعى للسيطرة، ولا علاقة بكليهما بالدين أو بالعلم..
كان من الخطأ من الطرفين استخدام الدين أو العلم في قضايا السياسة والصراع، وهو ما يجعل من حيادتهما أمراً مشكوكاً فيه، ولذلك تحتاج المجتمعات العربية من أجل استقرارها أن تتعلّم أن لا تجعل من الدين أو العلم أدوات في سباق التنافس على سيطرة الشعوب، فالحرية المسؤولة وغير المسيسة أمر مطلوب شرط أن لا تكون موجهه ضد طرف آخر..
قد تكون ردة الفعل العلمانية التاريخية والمسيسة نتيجة لتطرف وتشدد لبعض رجال الدين من أجل خدمة مصالحهم، ولو كان ذلك إضافات لا حصرها على الأصول الثابتة في الدين الحنيف، وقد تكفَّل الله عزَّ وجلَّ في كتبه بأن الزبد سيزول حتماًَ، لذلك سينتهي حتماً زمن رجال الدين وسيتوقف تضليل دعاة محاربة الدين باسم العلم، وستبقى الحرية المسؤولة سيدة الموقف مهما طال الزمن، وسيظل الدين شامخاً، ولن يتأثر إيمان البشر مهما تقدم العلم، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: 17).