د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
* * كان لنا زميلٌ أقربُ إلى أن يكون وكالة أنباءٍ متنقِّلةً يمضي نصفَ وقته في التقاط الأخبار ونصفَه الثاني في بثها، ولا يعنيه مصدرُها وموثوقيتُها وقيمتُها الحيويةُ أو الهامشية؛ فالأهمُّ ألا يُسبقَ بل يُلحق، وراق له الدور فتمثّله كأنما ولد به أو عاش له دون أن تعنيَه ابتساماتٌ هازئة أو تعليقات ساخرة، كما لم يُهمَّه التشكيكُ في معلوماته، وقدّرناها - منه ومن أمثاله - حكاياتٍ تُرضي الأنا المأزومة والمهزومة.
* * غاب عنا أو غبنا عنه فلم يفتقدنا كما لم نفتقده، وظننَّا أن فصيلته نادرة حتى أطلت وسائط التواصل الرقمي فاستغفرنا لصاحبنا؛ إذ كان - مقارنةً بما أفضى إليه الحال - ثقة ثبتًا أليفًا نظيفًا، وفتشنا عنه فإذا هو قد اعتزل النقل والتناقل فالمُدخلُ الجديدُ أكبرُ مما يحمله وأقسى مما يتحمّله.
* * مضى ولم نمضِ لنعجبَ ممن سئموا فردًا ثم التحفُوا بجمع، وبرموا بكاذبٍ فاحتواهم كاذبون، ولنألم ممن يُسوِّقون للإعلام الرقمي بكل أدوائه ظنًا أن التخلص من الإعلام التقليدي رايةٌ وغاية، ولا بأس في عرفهم إن شمَتوا وشتموا، وكذا تتيه الحقيقة عندما تشوبها التصفية وينقصها الصفاء، وبقينا نتساءل: إلى أين نسير؟
* * صرنا أو أكثرُنا لا نتيقن الخبر حتى نلمسَه ولا ننساه حتى نرمسَه، فكما نفتقد الخبر نفتقر إلى المخبر المتسم بالأمانة والتأني، وإذ اعتاد البلاغيون التمييز بين الجملة الخبرية القابلة للتصديق والتكذيب والجملة الإنشائية «الطلبية وغير الطلبية» المتكئة على الاستفهام والتعجب والنداء والأمر والنهي وما في حكمها فإن الفلاسفة حين بحثوا في الصدق والكذب لم يغفلوا الجانبَ الروحي المعتمد على التسليم المطلق عند المؤمنين دون نفي أحقية سواهم في الحوار حوله والإذعان له أو إنكاره، ولم يتجاوزوا الجانبَ الماديَّ المتاحَ بحثُه والمباح نفضُه ورفضُه.
* * سيبقى البلاغيون والفلاسفة في مواقعهم لنرى التصديق والتكذيب شأنًا خاصًا بالفرد وفق علميته وعقليته وخلفيته، ولا مشكلة هنا لولا معضلةٌ تابعة لهذا التفريع وهي: الصحةُ التي تدعمها الحقيقة والبطلان الذي يأزر انتفاءَها، وهو مدار الاجتهاد الكتابي التواصلي» الرقمي والتقليدي»، بدءًا من مقدماته مرورًا بنظرياته وانتهاءً بنتائجه، ولنتخيلْ أننا أمام حكم قاطعٍ أو افتراض إجماع مانع حول حلٍ أو تحريم، وبما أن أكثرنا متَّبِعون لا مبتدعون ونقليون لا «عقلانيون»- بالمعنى المصطلحي- فسوف ننقاد برضًا، ولكن: ماذا إذا اكتشفنا ألّا وجود لمثل تلك الحدية الفاصلة بين «الأبيض والأسود» فإننا سنقرر بناتج منطقي أن الرأي ناقص أو باطل، وسنفقد من ثم الثقةَ بمتبنيها؛ أفرادًا كانوا أم مؤسسات، والأمر نفسه في القضايا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ولكنَّ شأنها لدى العامة أقل وتأثيرها أضأل.
* * تبدل الزمن وتبدلت صرامته وناقض بعضُنا مواقفهم ودخلوا في سجال التبخيس وربما التدليس؛ فالصحةُ اخترقت كما الصدق؛ فلماذا؟ وماذا بعد؟
* * الجزءُ لا يكتمل بنفسه.