د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في مقالات سابقة وقبل سنوات مضت كتبت عدداً من المقالات عن مخطوطة «رحلة حجازية» لرحَّالة مغربي اسمه محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي المتوفى عام 1376 هجرية - 1956 ميلادية، وكانت رحلته إلى الحجاز عام 1365 هجرية - 1946 ميلادية وقد حقق هذه المخطوطة أخونا وصديقنا الدكتور عبدالمجيد خبالي، من المغرب الشقيق، ولا غرو أن يعمل في مجال التحقيق، فهو على نهر من المخطوطات، حيث يعمل في الخزنة الملكية المغربية، التي يوجد بها أكثر من سبعة وعشرين ألفاً من نفائس المخطوطات.
والمخطوطة المحققة تحكي رحلته إلى الحجاز لأدائه فريضة الحج، وطالما أن موسم الحج قد انتهى هذا العام على أحسن ما يرام والحمد لله، فكانت مناسبة للمقارنة بين ما كان يتكبده الحجاج إلى زمن قريب تستخدم فيه الطائرات ووسائل المخترعات المتاحة في ذلك الزمان، وبين ما هو متاح في زمننا هذا.
يقول: (كان النهوض من مصر صبيحة يوم الاثنين 3 ذو الحجة 1365 هـ، فامتطينا الطائرة من مطار القاهرة في الساعة الثامنة بتوقيت مصر، ووصلنا الأقصر الساعة التاسعة والربع، فوجدنا تلك النواحي غارقة في مياه النيل الذي كان فيضانه هذه السنة خطراً مدهشاً على مصر، ورغماً عن ذلك، نزلنا في مطار الأقصر وشربنا فيه قهوة البن).
استخدم كلمة امتطينا، وفي ظني أن الصعود إلى الطائرة هو الأصوب، لأننا نصعد إليها بسلم، ومما لفت نظري أنهم ذهبوا إلى الأقصر لينطلقوا إلى الحجاز، ولم يذهبوا من القاهرة مباشرة إلى جدة، كما ذكر أنهم قدَّموا لهم قهوة البن، وربما أن هذا هو التقليد في الضيافة، وكنت أعتقد أن تقديم الشاي هو المتبع في ذلك الوقت في مصر الحبيبة، كما هو الحال اليوم.
ويقول: (ووصلنا إلى شاطئ البحر الأحمر، في الساعة الحادية عشرة والربع، ولا أظن أن لفظ البحر الأحمر وصف له بالحمرة، بل هو كالبحر الأبيض، إنما هي أعلام لتميز لا يوصف، غير أن هذا البحر قد التف على ساحله الرمل الأحمر من جانبي مصر والحجاز مع ضيقه، وتقارب ساحليه نسبياً، فمن هناك جاءت التسمية بالأحمر).
لا أعلم إن كان مصيباً في تفسيره لسبب التسمية، لكن ما طرحه يستحق أخذه بعين الاعتبار، مع ما طرح ويطرح من أسباب مثل انعكاس أشعة الشمس الحمراء التي تحيل الماء إلى اللون الأحمر، أو لنوع الطحالب والنباتات البحرية، وغير ذلك.
ويقول: (كان الناس يهولون علينا السفر فوق البحر الأحمر، ويصفونه بأنه ذو أهوال تعلو حتى تصل إلى الطائرة، فتحطمها، وأنه الذي غرق فيه الفرعون وقومه، ولكني ما رأيت شيئاً من ذلك فوق هذا البحر الذي وجدته هادئاً مطمئناً في الذهاب والإياب معاً ولله الحمد على أفضاله).
هذا النوع من الأساطير التي نجدها في كل مكان، من هذا العالم الفسيح، تجدها محلية وأحياناً عامة واسعة الانتشار، ومثل هذه الخرافة عن البحر الأحمر، يمكننا أن نتفهّم أسبابها، ولقلة معرفة عامة الناس بأكثر من محيط بلدهم المحدود، أما العلماء فإنهم بلا شك يدركون من الحقائق، وفي منابت الحضارة القديمة من الأساطير، مثل السومري والأكادي والأشوري والبابلي الكلداني، والفرعوني، والإغريقي واللاتيني البيزنطي، وغيرها من منابت الحضارات العالمية القديمة، وفي بلادنا أيضاً بعضاً من تلك الأساطير سائدة واندثرت، وأذكر أن أكبر إخواني - رحمه الله- والذي توفي قبل عشرين عاماً وكان عمره عند الوفاة اثنين وتسعين عاماً، ذكر أنه عندما كان فتى ذهب إلى مكة المكرمة، وكان بجواره رجل تبدو عليه سمة العلم والوقار، فسأله أخي، من مكان قدومه فقال أنا مراكشي من بلاد المغرب، وقال له أخي: أنا قادم من الرياض، وبعض المجتهدين لدينا فسر قوله تعالى: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أن الشمس تغرب في بلاد مراكش قرب مدينة يُقال لها طنجة، وأنكم تحضرون عجينة خبزكم قبل العصر، حتى إذا قربت الشمس من المغيب خبزتم خبزكم على حرارتها، وأنها تغرب في البحر، وعندما تصطدم به تسمعون صوتها عند الاصطدام بنغمة صوت (تش) فالتفت المراكشي إلى أخي، وابتسامة المتعلّم المتواضع تبدو على محيّاه، وقال: يا بني شمسنا مثل شمسكم وقمرنا مثل قمركم ونهارنا مثل نهاركم وليلنا مثل ليلكم، وتغرب شمسنا مثل غروبها عندكم، ونخبز على وقود من الحطب كما تفعلون، ولا تسمع صوتاً عند الغروب، وإنما تغرب في هدوء وسلام.
من هذا ندرك مقدار التطور الهائل في الفهم، وانتشار الحقائق، واندثار كثير من الأساطير وإن بقي قليل منها، وتبقى بعض من الأساطير مسيِّرة لعقول البشر وفعلهم، بسبب أساطير وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، كما يفعل الإرهابيون الذين يقتلون الناس بسببها، وغير ذلك مما نراه ونسمعه من أوهام تعشعش في الأذهان.