لو أردنا أن نستقصي ما يمكن أن يثمره الحج للمسلمين كافة من وجوه المنافع الأدبية والمادية لضاق علينا المجال، فإن لم يكن فيها إلا تعارف الشعوب الإسلامية، وإلمام بعضها بحاجات بعض، لكفاها ذلك عاملاً قوياً في دفعها إلى تبادل الوسائل والتعاون على سد المفاقر، ولوصلت جميعاً على هذا النحو من التكافل إلى مستوى رفيع بين شعوب العالم.
ولكن هذه الثمرات الاجتماعية الجليلة لا يمكن أن تكون إلا إذا تطورت فكرة الحج لدى المسلمين حتى تبلغ المفهوم من مراد الله من الحج، فإن المشاهد لدى أكثر المسلمين الآن أنهم لا يلحظون فيه إلا الناحية الروحية وحدها، وكان لتجريده لهذه الناحية أثر ظاهر في حصره في طبقة من المسلمين لا تتعداها إلا نادراً.
إذا تقرر هذا كان من أوجب واجباتنا أن ننوه بمنافع الحج للدين والدنيا معاً، وأن نكثر من ترويج هذه الحقيقة في الأذهان، وأن ننبه خطباء المساجد إلى ملاحظة هذا الأمر الجلل في شهور الموسم من كل عام.
حين جاء الإسلام جعل الحج ركناً من أركانه الخمسة، وهو أشد أركانه كلفة، لذلك أحاطه بكثير من وجوه الإعفاء جرياً على أسلوبه الحكيم في دفع الحرج عن متبعيه مصداقاً لقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج: آية 78. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ سورة المائدة: آية 6. فاشترط له الاستطاعة من صحة ومال، وكره أن يرهق فيه أحد نفسه ولو تطوعاً وتطلباً لزيادة الأجر.
لقد أقر الإسلام الحج، ولكنه لم يدعه على ما كان عليه في عهد الجاهلية، فإن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الأجساد رجالاً ونساءً مشبكين بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وقد سجل الله عليهم ذلك، فقال تعالى: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً الأنفال: آية 35. المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، وأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- لما قوي سلطان الإسلام ألا يدخل البيت عريان.
ونظم صلوات الله وسلامه عليه الحج فجعل له أميراً يتقدم الناس ويتفقدهم، ويدفع بوائق الطريق عنهم، حتى إذا انتهوا إلى البيت تولاهم هو وخطباؤه بالإرشاد لخيري الدنيا والدين.
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد تعميم العلم بأمر من الأمور خطب به الناس في الموسم، أو أوعز إلى أميره أن يخطب الناس به هنالك.
فحوَّل الإسلام الحج على هذا الوجه من عبادة جسدية لا روح فيها إلى عبادة اجتماعية روحية ذات أثر بليغ في ترقية شؤون المسلمين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه المزايا العظيمة بقوله تعالى: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ سورة الحج: الآيتان 27-28. وقد فسَّر العلماء المنافع بأنها دينية ودنيوية معاً، وهذا شأن الإسلام في كل ما فرضه على الناس: يراعى فيه مصلحة الحياتين جميعاً.