أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: رثى هذا الشّعوبيّ (بشّار بن برد) بقوله:
[فهو هنا.. هناك ما يزال.
يهدر في الشوارع الصماء.
يهدر في أغوارنا الخرساء.
يهدر كالزلزال.
وهو هنا.. هناك ما يزال.
أعمى بلا أرض ولا مدينة.
يبحث عن لؤلؤة زرقاء.
تحفظها أشعاره الأمنية.
للسنة العجفاء].
قال أبو عبدالرحمن: لم أشكّل حروف هذه الكلمات إلّا من أجل القارئ؛ لأنها بلاغم لا تعبأ بالجمال الفنّنيّي؛ ولا أنكر أنّ في النظرية الأدبية قيمة الشخصية التاريخية عندما تكون رمزاً وقناعاً؛ وأعلى درجات التمثّل إذا كانت الشخصية التاريخية غير رمزية في الغرض الذي أراده هذا الشّعوبيّيّ؛ وإنما كان يعبث بجمال الأداء الفنّي؛ وأمّا (بشّار) هاهنا فيراه (صبحي البستانيي) في مقالة له عن الدلالة المجازية بمجلة (الفكر العربي المعاصر) عدد 38 ؛ فوصفها بأنها رمز لشخصية تاريخية محصورة في إطارها التاريخي؛ فاجتازت حدودها الضيقة بفعل الشاعر (يعني أدونيس الشعوبي)؛ والواقع أنّ (بشّار بن برد) على علّاته المذهبية هو الرمز الجماليّ المجنحّ؛ وليس أدونيس الشعوبي هو الرّمز كما قالت المجلة ولا كرامة؛ وإنما هو رمز الشعوبية والطائفية، إذ وقع على طائفيّة أبي نواس، ومهيار، وابن يسار، وعلّان كما يقع الذباب على الخراءة.. إنّ البستاني في تنظيره تواطأ مع أدونيس على إخفاء حقيقة هذا القناع التاريخي، ووسوس للقارئ بأنّ بشاراً رمز للثورة؛ وبهذا يدخله أدونيس عالم الرمز.
قال أبو عبدالرحمن: لا يعهدّ الشعوبيّ إلّا وهو ثائر؛ فالشعوبية والطائفية، والثّورات كتلات متساوية في المعادلة الرياضية؛ لا أعرف أنّ الشعوبيّ شعوبي إلّا من خلال ثورته؛ فبشار رمز تاريخيّ قديم لم يدخله أدونيس عالم الرمز؛ وإنما اتّخذه لشعوبيته قناعاً كما اتّخذ مهياراً قبله؛ وإنما يكون الرمز بالمعنى الذي ذكره البستاني لو كانت الشخصية شخصية الألبيريّ الذي ثار بنونيته على اليهود، أو كان نصر بن سيار الذي رأى خلال الرماد وميض جمر، أو كان الفقيه الأندلسي الفلاني الذي أنذر بسقوط الأندلس ... إلخ.. ليس مطلق الثورة هو مطلبنا؛ لأنّ الشعوبيّ والحاقد ثائر دائماً على أمتنا.. ثم تعالوا لنرى أيّ رمز قناع يعنيه أدونيس؟ هناك هجاء للخليفة، وهو خليفة هاشميّ مسلم لم تخضعه أي قوة أرضية إلى الإصغاء لحق الفيتو؛ وأنما حلّت سحابة فخراجها لأمته؛ وهو خليفة مجنون؛ فانسحبت صفة الجنون إلى تاريخه من حيث يكون الثّقل السياسيّ والعسكري لأمتنا جنوناً قدرياً!! وهناك هجاء للسوط؛ وهو من شعارات ثورة فرنسا الماسونية التي اتّخذت للتغرير بعوامّ الشعوب ودهمائها معادات قياداتها وتاريخها مثل: (وأغوارنا الخرساء) حينما يكون الضمير عائداً إلى أدونيس وطائفته، وتكون ثورة بشار الشعوبي زلزالاً يهدر في الأغوار، وتكون شوارعنا صمّاء؛ لأنّ بشاراً الأعمى بلا أرض ولا مدينة؛ وأما حينما يعود ضمير أغوارنا إلى أمتنا: فلا يكون هدير بشار غير لحن نشاز خاسئ مهزوم، ولا يكون لنا من بشار أدنى قناع إلّا إن تمثلنا قيم فنية في شعره باعتباره جزأء من تاريخنا بعد أن استعرب لساناً.
قال أبو عبدالرحمن: مثل بشار القناع أسطورة (فينيق) في شعر أدونيس التي يروّج لها فنياً البستاني وغيره، مع التضليل حول مدلولها المعادي لأمتنا؛ بل هي المبالغة في التضليل إلى حد اعتبارها من باب الغربة والتّشوّف إلى بعث جديد؛ ولكنّ طلائع الوعي العربي لا يغرّر بها دعوى الغربة والبعث بإطلاق؛ وإنما تتساءل: بعث لأيّ شيء، وفي أي شيء كانت الغربة، وإلى أيّ شيء كان الحنين؟.. إنّ أسطورة (فينيق) الرمز والقناع والغربة والبعث في شعر أدونيس لا تحقّق المضامين التي يريدها الوعي العربي؛ وإنّما تحقّق منطقاً عدائياً يؤذي أمّتنا.. خذ نماذج من نشيد الغربة ضمن أوراق في الريح حيث استشهد بها (صبحي البستاني) في معرض الترويج.. قال أدونيس:
[غربتك التي تميت يا فينيق غربتي.
أزاحت عن وجودي الركام والفراغ والدجى.
هدمت باب سجني الكبير].
قال أبو عبدالرحمن: كل التاءات هاهنا للمتكلم؛ وأدونيس في وسط كانت حضارته الوثنية السّحيقة فينوقية، وليس لها وجود مادي سوى عرق الوراثة لدى بعض الطفيليات؛ ووجوده: غير عربيّ، ولا تاريخ عربي، ولا فكر عربي، ولا حضور عربي؛ وكلّ هذا الحضور يعني الفراغ والدّجى، ويمثّل غربة أدونيس، ولهذا يحن لسوى وغير.. قال خيّب الله آماله:
[هدمته بلهفتي إلى السوى بحبي العظيم]؛ وفخر بأنّ له أثراً في تحطيم الحضور العربي، من حيث جعله وراء؛ وكيده خاسئ لم ينل شيئاً من الوعي العربي.. قال:
[وما تزال خلفي البوابة الكبيرة.
السلاسل الفراغ الركام والدجى.
ترصدني تعلق التفاتها بخطوتي].. وهو يحب الشاب العربي المهزوم بمثل هذه الطائفية الرعناء:
[مشرّد أحبّ حتى المالئين جبهتي سلاسلا.
الكامنين في الدرب غيلةً].. وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.