د. عبدالرحمن الشلاش
في مرحلة الطفولة المبكرة نشأنا في بيئة تقدر العلم وتجل العلماء. كان العلماء وكبار المعلمين والمبدعون من الأدباء والمثقفين يذكرون بالاسم ويشار لهم بالبنان رغم أن المتعلمين في ذلك الوقت ليسوا أكثرية، بل إن شرائح كثيرة لم تنعم بالتعليم والمعرفة ومعاقرة الأدب والشعر إلا أن طموح أغلبية الناس يتجه إلى الجامعات كي يتخرج الأبناء والبنات وهم يحملون الشهادة الجامعية، وهي بزعم أولياء الأمور ورقة العبور السريعة إلى عالم المناصب ثم الشهرة والمال. كان الحصول على الدكتوراه حلمًا كل طامح إلى المستقبل السعيد لذلك كانت كل الأماني تصب في هذه الخانات الصعبة.
اليوم تبدلت الأحوال فهناك من اكتشفوا طرقًا سريعة جدًا للشهرة وللمال. قبل أيام كنت في مناسبة شبه رسمية ضمت أكثر من ثلاثين شخصًا فيهم الدكتور والمهندس والطبيب ورجل الأعمال والشاعر وغيرهم. كانت الأنظار تتجه أكثر لصاحب المال ثم الشخص المشهور، أما البقية فلم يحظوا بنصيب وافر من الاهتمام ولولا الحياء لتم ترحيلهم لمجلس آخر أقل في مستوى الخدمات بل ربما أعتبر وجودهم غير مرحب فيه. خطر في بالي حينها كثير من المقارنات بين مليونير لا يملك فكرًا، ومفكر جهبذ أنفق وقته في العلم والبحث لكنه ظل على مسافة بعيدة من الشهرة أو المال، ولو نطق لباح بالإسرار.
يقول أحد الرفاق الظرفاء لو لم أكن دكتورًا لتمنيت أن أكون بائع خضار، أو سمسارًا في سوق العقار، أو شاعرًا ملهمًا يحيي الأمسيات الجميلة ويفوز بالشهرة والمال، أو لاعب كرة قدم يركل الكرة بمهارة فيصفق له الملايين ويهتفون له فترتفع أسهمه في البورصة ليوقع أضخم العقود. إذا حضر مناسبة اشرأبت له الأعناق، وكل مشجع من جمهور ناديه يأخذ بخاطره، وعندما يسير في أي مكان يحيط به المعجبون من كل جانب. يقضي إجازاته في أرقى المنتجعات العالمية ويسكن أحسن القصور رغم أن حصيلته الفكرية تحت الصفر، لكن لا يهم يا صاحبي فحظه مربوط بقدمه، أما الفنان فحظه بين فكيه وتحديدًا في حنجرته ولسانه الطويل الذي يدر له الملايين. قلت لصاحبي لِمَ هذا الإحباط، وأين ذهبت طاقتك الإيجابية المتأججة، ولِمَ هذه الطاقة السلبية والنظرة التشاؤمية، رد علي عاد تصدق أن أتعس البشر الباحثين عن الطاقة الإيجابية وبرامج التدريب وتطوير الذات أغلب هؤلاء يروحون عن أنفسهم يبحثون عن السعادة في ركام البؤس وفي مواجهة أعاصير الشقاء. أقل الناس اهتمامًا بالطاقة الإيجابية أصحاب الملايين لا يعرفون عنها شيئًا في الوقت الذي تعرف الفلوس الطريق السريع إلى جيوبهم.
ربما وضع صاحبي الظريف مجهره الفاحص على الواقع المائل، والوضع المقلوب. من قلب المعادلة! الحقيقة أن الشهادة لم تعد بنفس القيمة السابقة فالوظيفة ليست مغرية، والمردود قليل، أو أن الحصول على الوظيفة قد أصبح صعبًا وربما مستحيلاً فأصبحت الشهادة لا تؤكل عيشًا ولا توصل لشهرة حيث بات طريق الشهرة صعبًا ويحتاج إلى جسور متينة للوصول للمراد. لذلك تحولت الأولوية للتاجر واللاعب وحتى الطقاقة التي تقبض في الليلة الواحدة خمسين ألف ريال سعودي، وسخفاء مواقع التواصل الذين سلكوا طرق الصدفة فصاروا مشاهير هذا الزمان.