* رمى جسده المنهك على الكرسي في آخر ساعة من الظهيرة. يثور هلعه كلما نظر إلى أصابعه التي تنمسخ منها البصمات بفعل الزيوت، حتى الحديد لا يسلم منها مع مرور الزمن. تذكر المتاعب التي واجهها في السفر.
* وفي لحظة مباغتة تبدلت ملامحه، وبدت عليه ابتسامة ساخرة، عقبها تمتمة في قرارة نفسه «المفيد من هذا الأمر البائس أني بعد سنوات عدة لو لجأت للسرقة لن أحتاج للقفاز الذي هو أهم من السلاح بالنسبة للصوص، لكنها فائدة مثيرة للشفقة. لم أجد شخصًا سلك هذا الطريق وخسر إلا المساكين الذين هم جزء من اللعبة! أدرك الفارق بين الخسارة وثمن الشيء: هو دفع الثمن دون أن تجني ربع ما أردت أو بصيص أمل لإعادة الكرة. ماذا عن أرباب العمل؟ غالبيتهم في هذا الطريق والخسارة بعيدة عنهم بُعد السماء عن الأرض، بل إن جشعهم يحيل غايتهم إلى سراب كلما أوشكوا عليها. قفزت إلى أقاصي مرآتهم، ويظلون يتسابقون نحوها. نفض هذه الخلجات عن ذهنه وهو ينهض ليعد لنفسه القهوة؛ لعلها تمده ببعض الطاقة.
* تناول فنجانه، وبعد رشفات عدة شعر بكفايته، ثم سكب ما تبقى منها، إلا أنه تنبه لما وجده على حافة مطبخه: نصف فطيرته التي حسب أنه التهمها أثناء صباحه دون أن يدع منها النزر للحشرات. التقطها وتوجه بها إلى صندوق الطعام، وحينما فتحه أثاره العجب: الكثير من أنصاف الفطائر على تنوُّع حشواتها. ذهب نحو مكتبه وهو في غمرة الحيرة، بيد أن بصره يجول على العناوين، كأنه يبحث عن شيء يتشبث به من الغرق، إلى أن وقع نظره على كتابه الذي قرأه ليلة الأمس، وحينما تناوله لم يرَ على عادته شرطة التوقف التي دائمًا يشخبطها بقلمه، بالقرب من رقم الصفحة، بل وجدها في منتصف إحدى الفقرات. استبد به الاضطراب؛ لأنه يخاف الأشياء التي لا تأتي على غير العادة، وراح يكرر الكلام بشكل آلي «لا يمكن للمصادفة أن تتكرر أكثر من مرة. إن التكرار نقيضها».
* بدأت ذاكرته تعمل كأن شيئًا طارئًا حدث بها. تذكر خطة السنة التي توقف في ربعها الأول.. أشغاله الروتينية التي لم يكملها.. إنه لم يكن يومًا يسلك أتفه الأشياء إلا ويبلغ نهايتها. وفي خضم ما يعتمل بدواخله رفت عينه على حين فجأة حالما لمح في دخيلته ذلك الشعور بأنه أسرع من حاضره.
** **
- أحمد السليمي