د عبدالله بن أحمد الفيفي
ما تنفكُّ عُقدة العَرَب الحضاريَّة المعاصرة تَحْمِلُهم على أن ينسبوا كلَّ فضيلةٍ إلى الآخَر.
إنه الاستلاب.
يكفي أن تتمشَّى في شوارع مدينة (الرِّياض) لتُدرِك ذلك الاستلاب اللغوي الحضاري. ولم تَعُد العُقدة غربيَّة فحسب، وإنما أصبحت عالميَّة أيضًا، فكلُّ ما ليس بعربيٍّ جميلٌ عند العَرَب! سترى مفردات هنديَّة، وفارسيَّة، وتركيَّة، وفرنسيَّة، وإنجليزيَّة، وصينيَّة، المهم أن لا تكون عربيَّة، وإنْ لم يكن لها معنى! أو ربما استُعملت كلمة عربيَّة ظنًّا أنها أجنبيَّة!
والبدعة الجديدة هي نسبة ما يصح أن يكون عَرَبيًّا إلى الأجنبي، كالقول في كلمات يمكن أن يكون لها وجهها من لسان العَرَب إنها يونانيَّة أو لاتينيَّة. ونضرب مَثَلًا بكلمة «لَجْنة». جاء في بعض المعجمات المعاصرة، كمعجم «المنجد في اللغة والإعلام» عن مفردة (لجنة): «الجماعة يجتمعون للنظر في الأمر ويرضونه. وهي إمَّا يونانيَّة من (ليجون)، أو لاتينيَّة من (ليجو).»
نعم، كلمة (لَجْنة) من مُحدَث الاستعمالات، فليست بمستعملة - فيما أعلم- في تراثنا العَرَبي. ولم أقف على استعمال الكلمة، في شِعر أو نثر، قبل القرن العشرين الميلادي. قال (أحمد فارس الشدياق):
ألم تر أربابَ المعارفِ عَوَّلَتْ
عليهِ ومنهمْ عارفٌ شَرَفَ العَرَبْ
تَحَرَّى غناءَ الناسِ في نَظْمِ لَجْنَةٍ
تُجَدِّدُ رَسْمَ العِلْمِ في سالفِ الحِقَبْ
وقال (محمَّد توفيق بن أحمد بن علي العسيري العباسي، 1304- 1355هـ = 1887- 1937م)، الشاعر المِصْري، نِسبته إلى قبيلة (العسيرات)، النازل قِسمٌ منها بمِصْر العليا، ويقال إن هذه القبيلة تنتمي إلى (العباس بن عبد المطَّلب):
لَجْنَةُ التَّوفيقِ أَرضَى حُكمَها
إِنْ أَبَـى سَعدٌ وإِنْ يَستَثقِلِ
أمَّا في لغة العَرَب قديمًا، فنجد قولهم:
«لَجَنَ الوَرَقَ يَلْجُنُه لَجْنًا، فهو مَلْجُونٌ ولَجِينٌ: خبَطَه وخلَطَه بدقيقٍ أَو شعير. وكلُّ ما حِيسَ في الماء فقد لُجِنَ. وتَلجَّنَ الشيءُ: تَلزَّجَ... أَبوعبيدة: لَجَّنْتُ الخِطْمِيَّ ونحوه تَلْجينًا وأَوخَفْتُه إذا ضربتَه بيدك ليَثْخُنَ... وتَلجَّنَ القومُ إذا أَخذوا الورقَ ودَقُّوه وخلطوه بالنَّوَى للإِبل. وفي حديث جرير: إذا أَخْلَفَ كان لَجِينًا؛ اللَّجينُ، بفتح اللام وكسر الجيم: الخَبَطُ، وذلك أَن ورق الأَراك والسَّلَم يُخْبَطُ حتى يَسقُط ويَجِفَّ ثم يُدَقُّ، حتى يتَلجَّن أَي يتلزَّج ويصير كالخِطْمِي. وكلُّ شيءٍ تلزَّج فقد تَلجَّنَ، وهو فعيل بمعنى مفعول. وناقةٌ لَجُون: حَرُون... قال ابن سيده: اللِّجانُ في الإِبل كالحِرَانِ في الخيل. وقد لَجَنَ لِجانًا ولُجونًا وهي ناقةٌ لَجُونٌ، وناقةٌ لَجُون أَيضًا: ثقيلة المشي، وفي الصحاح: ثقيلةٌ في السير، وجَمَلٌ لَجُونٌ كذلك. قال بعضهم: لا يقال جمَلٌ لَجُونٌ إِنما تُخَصُّ به الإِناثُ، وقيل: اللِّجانُ واللُّجُون في جميع الدواب، كالحِرَانِ في ذوات الحافر منها. غيره: الحِرانُ في الحافر خاصَّةً، والخِلاء في الإِبل، وقد لَجَنَتْ تَلْجُنُ لُجُونًا ولِجانًا.»
(ابن منظور، لسان العَرَب المحيط، (لجن)).
أفلا يمكننا القول، بناء على هذا الاستقراء اللغوي: إن لكلمة (لَجْنة) وجهًا من العَرَبيَّة، يغنينا عن الزعم أن أصلها يوناني أو لاتيني؟ وضبطها بفتح اللام، لا (لِجْنَة)، بكسر اللام، كما نسمع نطقها أحيانًا، ولا (لُجْنة)، بضم اللام. وجمعها (لِجان)، بكسر اللام.
لَجَنَ الشيءَ يَلْجُنُه لَجْنًا: خلَطَه، وحاسَه. وهل اللَّجنة إلَّا خليط من الناس؟
وربما كان دور اللِّجان كذلك أن تحوس الأمور حَوْسًا، لتستخلص منها ما تتمخَّض عنها من نتائج!
ومن جهة أخرى فإن اللِّجان تلجِّن الأمور، أي تمزج الرؤى حولها، وتدرسها، وتخبطها، وتدقُّها، وتسهِّلها، حتى تلزِّجها تلزيجًا، وبالجُملة تطبخها طبخًا حتى تستوي، أو ربما تَفْسُد كأيِّ طبخة! وكلُّ هذا له أصلٌ من المادة اللغوية (لجن)، كما رأينا.
على أن بعض اللِّجان كالإبل اللِّجان، أي الثقيلة في المشي! تأخذ بالحكمة القائلة: «في التأنِّي السَّلامة وفي العَجَلة النَّدامة»!
** ** **
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify