د.عبد الرحمن الحبيب
«لا أعرف بأي أسلحة ستخاض الحرب العالمية الثالثة، لكن الحرب العالمية الرابعة ستخاض بالعصي والحجارة». هذا ما قاله ألبرت أينشتاين في أربعينيات القرن العشرين، بعد تطوير أول سلاح نووي. إلا أن توقعات أينشتاين كأغلب التوقعات المستقبلية ليس بمقدورها تصور التغيرات خلال صيرورة التطور.. الآن ثمة سلاح جديد من نوع آخر: التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي..
«العالم ينتظر حربا تكنولوجية باردة..» حسب الكاتبة الروسية آنّا كوروليوفا، بمقالها في إكسبرت أونلاين حول الصراع على زعامة العالم بين الولايات المتحدة والصين. وفي ذات السياق كتب الخبير الاقتصادي تشي لو: «ستنتهي الحرب التجارية عاجلاً أم آجلاً، لكن «الحرب التكنولوجية الباردة ستستمر» (BNP Paribas).
العلاقة الأمريكية-الصينية تحولت من تنافس ناعم إلى شرس ومواجهة جديدة لم تتشكَّل بعد.. فهل تنزلق الدولتان في فخ ثوسيديديس، الفيلسوف اليوناني القديم الذي حدّد السبب وراء ذهاب إسبرطة (أمريكا هنا) إلى الحرب مع أثينا (الصين) التي كانت تصعد وتنمو بقوة، بسبب خوف الأولى على بقائها، بحسب التحذير المشهور للبروفسور غراهام أليسون (جامعة هارفارد) الذي ساق أمثلة سابقة لفخ ثوسيديدس: بداية الحرب العالمية الأولى، حرب الخلافة الإسبانية، الحرب الأهلية الأمريكية، حرب الثلاثين عاماً الأوربية بالقرن السابع عشر.
صاغ أليسون مصطلح «فخ ثوسيديديس» بطريقة مدوية بصفحة كاملة بصحيفة نيويورك تايمز في 6 أبريل 2017، يوم اجتماع الرئيس الأمريكي مع الرئيس الصيني.. يقول أليسون: «في أبريل، كانت كعكة الشوكولاتة قد قدمت للتو بقمة مار لاغو عندما انحنى الرئيس دونالد ترامب ليخبر الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الصواريخ الأمريكية قد تم إطلاقها على القواعد الجوية السورية.. تاركاً لخيال شي تصور استعداد ترامب للهجوم على كوريا الشمالية.. مرحبًا بكم في العشاء مع القادة الذين يحاولون الآن إدارة العلاقة الجيوسياسية الأكثر خطورة بالعالم».
لكن هناك من يرى أن الوضع الحالي أكبر من مجرد نموذج ثوسيديديس، مثل الباحث بمركز الأمن الأمريكي روبرت كابلان (مؤلف كتاب عن الحرب والإستراتيجية للقرن 21) الذي سبق أن كتب مقالاً عنوانه على غلاف مجلة اتلانتيك عام 2005: «كيف سنحارب الصين» ذاكراً أن المنافسة العسكرية الأمريكية-الصينية ستحدد شكل القرن الحادي والعشرين؛ وستكون الصين خصماً أصعب كثيراً من روسيا.. قبل أسابيع كتب كابلان بمجلة فورين بوليسي: لقد وصل ذلك المستقبل! إنها حرب باردة جديدة.. فاختراق الحاسوب الصيني المستمر لسجلات الحربية الأمريكية والبنتاغون وما إلى ذلك تشكل الحرب بوسائل أخرى.. جازماً بأن هذه الحالة ستتفاقم..
إذن، لم يعد السؤال عن إمكانية وقوع حرب عالمية باردة جديدة، بل عن نوعية هذه الحرب بين أمريكا والصين، وما الأساس المحرك لها، هل هو كما يبدو تجارياً أم أنه عسكري أم تكنولوجي أم هي شاملة.. وهل ستخف أم ستتفاقم.. وهل يمكن تفاديها أم أنها حتمية؟
حتى لو عُقدت هدنة تجارية، فقد تشهد العلاقات بين البلدين تصعيداً بمجالات أخرى، بداية بالتكنولوجيا فهي أحد المجالات الرئيسية للمواجهة، لأنها المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي والنفوذ، حسب المحلل آلان سابيتوف (فريدوم فاينانس). التطور التكنولوجي يشجع هذا النزاع بدلاً من تخفيفه، إذ يمكن لكلا الطرفين التدخل في الشبكات التجارية والعسكرية للطرف الآخر.. فلم يعد المحيط الهادي حاجزاً شاسعاً كما كان سابقاً.. فبضغطات أزرار على الكمبيوتر يمكن البدء بحرب ليست كالحرب الباردة القديمة؛ بل بهجمات إلكترونية ضخمة..
ورغم التفوق التكنولوجي الأمريكي، إذ لا تزال أكبر الشركات التكنولوجية بالعالم أمريكية، إلا أن الصين تتوجه للمنافسة، وللاستحواذ على دور أكبر في إدارة الإنترنت وربما قيادته وتشكيل المؤسسات والمعايير الدولية للفضاء السيبراني.. فالصين لديها أكبر عدد مشاركين بالإنترنت، وأكبر إيرادات، وأكبر سوق إنترنت.. وتخطِّط الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي تكنولوجياً، فلأول مرة تفوَّقت الصين على أمريكا في عدد المنشورات العلمية، ويتخرّج المزيد من الطلاب بالعلوم والهندسة بالصين أكثر من أي بلد آخر (تقرير مجموعة بوسطن الاستشارية). كما تساهم الصين في البنية التحتية للعديد من البلدان عبر بناء شبكات الجيل الخامس؛ فالشركة الصينية هواوي تتصدر السوق العالمي بنحو 30 %، مما يؤدي لتبعية بعض الدول الشريكة في المستقبل، فضلاً عن التأثير المتزايد للصين في دول جنوب شرق آسيا والدول المجاورة.
هل تستطيع الصين حلول مكان أمريكا في الفضاء السيبراني والتكنولوجيا؟ ربما، لكن لن تكون دون تحدٍ وعراقيل جسيمة. يذكر آدم سيغال (خبير أميركي بالأمن الإلكتروني) أن شركات التكنولوجيا الصينية أصبحت هدفاً للضغط السياسي في أمريكا وأوروبا وأستراليا، حيث يتم فيها الحد من استثمار الشركات الصينية وتقييد أعمالها، وتشديد حماية الملكية الفكرية..
تزايد النفوذ الصيني في العالم يعني تزايد مؤشرات الاحتكاك مع الولايات المتحدة مما يثير حتمية الحرب الباردة كما ترى كوروليوفا. لذا، لا يستبعد سابيتوف أن تسير الأمور بين الولايات المتحدة والصين نحو الحرب، ولكن ليس نحو حرب مفتوحة، إنما حرب تكنولوجية على الزعامة العالمية.
آخر الكلام، أنه إذا كانت التحذيرات بوقوع كارثة تؤدي عادة إلى تفاديها، فإن الحرب العسكرية يمكن تجنبها بالوسائل الدبلوماسية المعتادة، أما الحرب التكنولوجية فلا أحد يمكنه التنبؤ بها حتى الآن.