د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
في سالف الزمن القريب كتبت مقالاً عن السيد «مارتن»، إيدي مارتن، مواطن أيرلندي عاش في السعودية 29 ربيعًا، عاش فيها وكأنه من أبنائها. قدم السيد مارتن للسعودية عندما لم يجد عملاً في أي مكان من أرض الله الواسعة التي عرف منها الكثير من البلدان، وقدم إليها وجلاً مترددا لما كان يسمعه عنها في وسائل الإعلام الغربية رغم أنه عمل في بلدان أخرى من العالم الثالث بما فيها أفريقيا حيث كان قسًا يبني المساكن للأفارقة. تحول بعد ذلك إلى يساري بعد أن نفر من ممارسة بعض الكنائس واستغلالها للدين، وهجر أفريقيا بعد موقف مرعب تعرض له في جنوب أفريقيا كأبيض متزوج من ملونة، سيدة مصرية فاضلة اسمها ليلى. حولت الهزات المتتالية التي تعرضت لها مشاعره السيد مارتن لمواطن عالمي لا منتميا، إنسان محب للإنسان والإنسانية.
عملت مع السيد مارتن في الجامعة، وتعرفت عليه بعد موقف غريب واستمرت صداقتنا حتى اليوم، والسيد مارتن معروف أيضًا لدى كثير من الزملاء في الجامعة، فهو بخلاف كثير من الأوروبيين العاملين في الكلية، لم يضع حاجزًا بينه وبين أي سعودي، بل إنه كان يستهجن تصرفات بعض زملائه الذين يعملون في المملكة ويسيئون لها ويتهمهم بالجهل والجبن، الجهل بالمملكة والجبن من الخروج والاختلاط بالسعوديين فقد كانوا متقوقعين في دائرتهم الصغيرة. أما إيدي فعاش في المملكة كسعودي، يعرف كل الفوالين، ومطاعم الكبدة، والبقالات، والغرابي، والبطحاء الخ.. وكان رجلاً يكره الهدر والبطر ويجسد الإنسانية في أرقى معانيها.
لم يرزق صاحبنا بذرية فتوجه وزوجه للتبني من سيريلانكا بترتيب مع إدارة أحد ملاجئ الأيتام ومجهولي الهوية. وهناك اختصم مع حليلته حول أسلوب التبني، فهي أرادت أن تختار الطفل لأن الخيار كان متاحًا، وأصر هو على تبني أي طفل أو طفلة في أول القائمة بصرف النظر، فالموضوع بالنسبة له كان إنسانيًا في المقام الأول. تمخض نصيبهم عن فتاة سمراء مصابة بفقر في التغذية بدت في البداية وكأنما فقدت أحد عينيها. لم تكن السيدة راضية عن هذا الخيار ولكن بالنسبة لإيدي، لم يكن هناك مجال للمساومة.
أحضر إيدي «أونيا»، ابنتهما بالتبني، للمملكة فتحسنت صحتها مع الوقت وتحولت إلى طفلة نشطة ملأت عليهم البيت. اهتم بها أشد الاهتمام وكان يطلب لها الكتب والألعاب من الخارج عبر الإنترنت، وطلبت كلبًا فاشترى لها كلبا. كان يخرج بالكلب لينزهه حول المنزل، وفي كل مرة يواجهه رجال الحسبة كانوا يستوقفونه بسبب ابنته السمراء وبسبب كراهية بعضهم للكلاب، وكانوا يكنونه أحياناً «بأبو الكلب».
أدخل إيدي أونيا أفضل المدارس في الرياض، وصرف على تعليمها السباحة، والموسيقى وكل ما أحبت. أحضرها لمنزلنا مرات فنشأت بينها وبين ابنتي صداقة استمرت لسنين. ولكن القدر لم يمهل السيد مارتن فقد مرضت زوجته، وتوفيت بعد رحلة طويلة من العلاج. إثر ذلك ترك السعودية لأنه لم يطق رؤية الأماكن التي تقاسما العيش فيها، فرحل لبلدة شاطئية في جنوب فرنسا تدعى «كاليور». وهناك انقطعت أخباره لبعض الوقت وأسعفني الحظ بالتواصل معه مؤخرًا مرة أخرى. غير أن الصدمة كانت مهولة عندما عرفت أن ابنته الجميلة توفيت أيضًا في مستشفى في مدينة «أكسن بروفانس» حيث كانت تدرس. وكانت الصدمة أشد عندما أخبرني بأنها توفيت إثر انهيار عصبي بسبب تعرضها لموقف عنصري في فرنسا، حيث تكررت ملاحقتها والإساءة لها اعتقادًا من بعض العنصريين الفرنسيين بأنها مهاجرة. وهناك شك بأن المستشفى تساهل في علاجها للسبب ذاته، وقد تأخر لستة أيام في نشر التقرير الطبي.
هكذا دفعت الكراهية العنصرية بفتاة جميلة في ريعان شبابها للموت لا لشيء إلا لكون بشرتها سمراء. جهل كل من أساء لها من كانت وجهل ماضيها وهويتها وقصتها الجميلة. هذه العنصرية الممنهجة المتأصلة تحدث في بلد يعتبر الحرية الإخاء والمساواة شعارا رسميًا له. لكنها كانت حرية وإخاء ومساواة للبيض فقط. ومما ذكره لي السيد مارتن وكرره لي، أن ابنته أونيا عاشت وزارت بلدانًا عدة ولكنها لم تحب بلدًا كالمملكة العربية السعودية، التي كانت تنظر لها كوطنها الإنساني الحقيقي، وأنها طالما دخلت في جدلٍ مع من عرفتهم دفاعًا عن المملكة وكانت تتهمهم دائمًا بالجهل وعدم معرفة المملكة. وهنا لا بد من القول إن الإنسانية والأخوة ثقافة مجتمعية وليست شعارات سياسية، فالعنصرية الممارسة في بعض المجتمعات هي إرهاب مخيف صامت. رحمك الله يا أونيا، وأحسن عزاء والدك.