د. حسن بن فهد الهويمل
لم تكن (الحروب العالمية) ممكنة في ظل الردع النووي، والتجارب المرَّةِ.
ولم يكن الوئام ممكناً بين دول التسلط، والاستكبار في ظل المصالح المتعارضة، والجشع البشع، والتدخلات السافرة.
ولم تكن الإنسانية السوية متوقعة في ظل التوحش البشري، والتطرف الديني، والتعنصر العرقي، والتعصب الطائفي.
(مِئتا دولة) تنتشر في أرض الله الواسعة، تختلف طبيعتها، وتتعدد أشكال أهلها، وألوانهم، وألسنتهم، وإمكانياتهم الذهنية، والعقلية، وعقائدهم، وثقافاتهم، ومستويات تفكيرهم، وتقديرهم، وتدبيرهم:-
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}.
كل دولة ترى نفسها الأنموذج، والمثل الأعلى للإنسانية.
فعقيدتها الأقوم، والأَسْلَمُ.
ولغتها وعاء الحضارة الإنسانية.
وإنسانها مثال العقلية، والقوة، والقدوة.
وكل شيء عندها هو الأعلى، والأمثل.
في ظل هذه القناعات الزائفة، والقوى المتَعدِّدة، والخلافات المستمرة، وتعارض المصالح المتصاعد، وإعجاب كل امرئ بما هو عليه، تبدو الخيارات صعبة، ومجالات التحرك ضيقة، والحلول غير مأمونة.
والعقلاء، العالمون، المجربون في حيرة من أمرهم، وبصيص أملهم يردد:-
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحَكمَتْ حَلقَاتُها ... فُرِجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ
لا بد -والحالة تلك- من التخلُّص، والتماس المنافذ المنقذة من تلك الأوضاع المتردية. فوضع العالم كله، والوضع العربي على وجه الخصوص بلغ الدرك الأسفل من الخسار، والبوار، والهوان، في كل مناحي الحياة.
(الاستعمار المعاصر) بنعومته، وخفائه أشدُّ ضرراً من (الاستعمار التقليدي) بخشونته، وبروزه القائم على الثكنات، والمناديب.
(الاستعمار المعاصر) يتكئ على الخلافات الداخلية بين المكونات السكانية. تفادياً للوجود العسكري، الذي يذكي مشاعر العداء، وينمي الإحساس بالقهر، ومصادرة الحريات.
لقد ترك (الاستعمار التقليدي) آثاراً حسنة، لأنه قَوَّى الشعور: الديني، والقومي، ومكَّن الشعوب من الوعي، ومقاومة الاحتلال.
أما (الاستعمار المعاصر) فهو كالخدر، ينساب في المفاصل، ويصرف الأنظار عن فظائعه إلى الخوف المتوهم بين أبناء الوطن الواحد.
ما تركه (الاستعمار المعاصر) من إهلاك للحرث، والنسل، وتهديم للبيوت، وتدمير البنى التحتية، يعد أخف ضرراً مما تركه من سلوكيات، وأخلاقيات، تقوم على العداوة، والبغضاء بين المكونات السكانية في الوطن الواحد.
المباني يعاد بناؤها، والبنى التحتية يعاد ترميمها، والمواليد تعوض عمن قتل. ولكن الدماء المراقة بين أفراد المجتمع الواحد خلقت عداوات، وأضغانًا، وأحقادًا لا يمكن نزعها بسهولة.
السؤال الملح:-
- أين تكمن السلامة؟
سؤال مشروع، ومهم. ولا سيما أن اللعبة القذرة تكشَّف عوارها. واستهلك صناعها أقنعتهم، وبدت سوءاتهم، وبشاعة صنيعهم. ومنفذو اللعب أنهكتهم الحروب المجانية، وعرفوا أنهم يقاتلون بالإنابة.
اللحمة الوطنية، واندماج المكونات السكانية، والخلوص من (الأدلجة)، والتطرف، والتكتلات الفئوية، والجنوح إلى التصالح، والتعايش هي وحدها القوة الضامنة للسلامة.
التطرف الديني، والتعصب الطائفي، والتعنصر العرقي، والقطرية الإقليمية من آفات الشعوب. وهي الداء العضال، الذي يجعل الأمة الواحدة قابلة للفتن، والحروب المدمرة، وهي سلاح الاستعمار.
الدول التي لم يخترق لحمتها التطرف، والتعصب نجت بنفسها، وحافظت على لحمتها، ومثمناتها.
الدول العربية التي احترقت في أتون (الربيع العربي)، بدأت مشاكلها من:
- الشعوب المغرر بها.
- الأنظمة العسكرية التي أذلت إنسانها، ودمرت بنيانها، وصنعت أعداءها، واسْتَعْدت شرار الخلق على مثمناتها، ومكتسباتها، وحكمت بالحديد، والنار.
- الزعامات المتهورة، التي لا تحسب للعواقب الوخيمة حسابها.
إذ كلما فقدت الأنظمة أهلية الوجود سهل اختراق شعوبها، وتدميرها بيدها. تماماً كالذين يخربون بيوتهم بأيديهم.
مكمن السلامة في:-
- أنظمة تملك مشروعية البقاء، وأهلية الوجود: ملكية، كانت أو أميرية، أو سلطانية، أو ما شئت من المسميات.
- شعوب متلاحمة، متوادة، بعيدة عن التطرف، والتعصب، و(الأدلجة)، والتحزب، وتعدد الولاءات.
- وحدة الوطن، والعقيدة، والصف، والكلمة، والهدف.