د.فوزية أبو خالد
وعدتُ في مقال سابق 7-8-2019 على أثر قرارات القيادة الأخيرة بشأن تمكين المرأة القانوني من ولاية نفسها بنفسها بالإضافة لقرار تمكينها من ولاية أبنائها القصر إن كانت أرملة أو مطلقة وما قبله من قرارات تمكين المواطنات من فرص العمل الشريف في قطاع الدولة والقطاع الخاص ورفع الحظر المروري عن حقها في الحركة المستقلة، بأن لي عودة في مقال لاحق وهو هذا المقال وقد تليه سلسلة مقالات أخرى، لقراءة هذا التمكين في إطاره السيسيولوجي أي كجزء من الكل الاجتماعي في الاستقرار والحركة معا. فتمكين النساء ليس إلا تمكين للمجتمع برد الاعتبار لكل مكونات الطيف الاجتماعي المهمشة والمركزية معا ليكون لها قول وعمل في نهضة وطن.
لا بد أنني أستطيع كغيري رصد أن هناك تقبلاً اجتماعيًّا واضحًا لهذه القرارات الجديدة على المجتمع فيما يخص المرأة خاصة ولكن أيضًا فيما يخص الحركة في الفضاء العام عمومًا لدرجة أن البعض صار يتبرأ من كل آرائه السابقة في شأنها أو المنكرة لها، إن لم يدعي تنبؤه بها عدا عن تأييده المطلق لها، إلا أن الرصد الأهم هو ذلك التقبل المقرون بالإقبال الواسع على الأخذ بها وتطبيقها وبأسرع من المتوقع. ومع ذلك فإنه يصعب تقييم حقيقة التغيرات الاجتماعية وكيفها ومداها وجذريتها بناء على ما هو ظاهر منها إذ إن تفكيك الخلايا العميقة والبنى التحتية للمنظومة القيمية والثقافية القائمة لتواريخ طويلة ليست عملية تتم بين ليلة وضحاها كما أنها لا تتم في جانب على الوجه المنشود إذا بقيت الجوانب الأخرى متخلفة أو على الأقل ليست مواكبة لنفس وتيرة وجدية التمكين المقر على مستوى سياسي رفيع.
لهذا فإن هذا التمكين الذي تحقق بعد طول انتظار يحتاج لتعزيز، مثلما أن مظاهر «الانفتاح» بحاجة إلى ترشيد وعقلنة وتعميق بما يحقق فعلا نقلة نوعية من الحال الرعوية للمجتمع للحالة المدنية.
وهذا لن يكون كافيًا ولا يتم ما لم يقرن على أرض الواقع بعدد من الشروط والضمانات التي تحتاجها كل المجتمعات في تحولاتها الإصلاحية المستنهضة للمجتمع بكافة مكونات النسيج الاجتماعي وبتنوع وتعدد أطيافه الفكرية والثقافية وبكل امتداد قواه الاجتماعية من المستبعد للحاضر ومن المركز إلى الأطراف أي من المدن الرئيسة إلى المدن والقرى النائية في المناطق البعيدة عن المركز.
لقد هدمت الدراسات الاجتماعية النقدية تلك التنظيرات التقليدية المحافظة والمبسطة تبسيطًا مخلا لحركة المجتمع في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، وفي الحراك الاجتماعي أي في الانتقال من البداوة إلى التحضر ومن طبقة إلى طبقة ومن الجهل للعلم. وعلى الرغم من أن بعض تلك التنظيرات تعتبر من النظريات الأولى المؤسسة لعلم الاجتماع نفسه كنظرية التطور عند المفكرين الأوائل للعلوم الاجتماعية مثل أوجست كومت وأميل دوركايم ولاحقا ماكس وابر، فإن ذلك لم يمنع الاعتراف بأنه لم يعد تحليل التحولات الاجتماعية ممكنًا بتلك القراءة الأولية التي ترى حتمية انتقال المجتمعات من البسيط للمركب ومن اللاهوتي للعقلاني ومن الريفي للمدني ومن العرفي للقانوني بطريقة آلية وبالاعتماد على الربط الميكانيكي بين الأحداث الاجتماعية والقرارات العليا وبين التعويل عليها لتحقيق التحولات العميقة سواء في القيم والثقافة أو في بنية العلاقات الرأسية والأفقية بين القوى الاجتماعية. والواقع أن مما اضطرني لمثل هذا التناول النظري المعقد لمقال اليوم هو ما أقرأه من «استخفاف عام» لدى الكثيرين من نخب الكتابة والإعلام بوجه خاص في قراءة التحولات الكبيرة والكثيرة والسريعة التي يشهدها مجتمعنا اليوم. فنرى منها ما ينحو إلى تمجيد وإن كان مستحقا لهذا المنجز أو ذاك إلا أن المبالغة فيه تكشف عن توظيفاته كعملية استجداء شخصي صريحة لمنصب أو لدعوة على قصعة، إن لم تتحول لعملية نفاق بواح، ونرى منها ما يكتفي برؤية أحادية عاطفية ترى في «التحولات» إما انتصارًا لها أو هزيمة لغيرها، ونرى منها ما يربط ربطًا سببيًّا براجماتيا بين التحولات وبين القرار السياسي فيرى أن ذلك كفيلاً وحده بتحقيق نقلة نوعية في الواقع الاجتماعي وفي العلاقات والقيم الثقافية دون أن يبحث لا في التراكم الجدلي للتحولات ولا في المجهود الاجتماعي المبذول قبلها والمطلوب بعدها من قبل القوى الاجتماعية لتجذير تلك التحولات وتحويلها من حدث اجتماعي أو قرار إداري أو سياسي إلى عملية نوعية من التغير الاجتماعي الاستنهاضي على مستوى قيمي وثقافي.
وفي هذا أرى أو بالأحرى أجتهد لأرى فأقول إنه هذا هو الوقت الذي نحتاج فيه كما لم نحتج في عهد سابق إلى طرح الأسئلة وإعمال البحث وتحميل مؤسسات العلم كالجامعات مسؤوليتها التحليلية والاستشرافية بدل تحييدها أو قصر أوجه عملها البحثي الكثيرة الملحة على مجال الأمن السبراني. كما أن هذا هو الوقت لرفع سقف الكلمة وللتفكير جديا في فتح المجال لتأسيس بيوتات الفكر والخبرات المتخصصة المستقلة مثل/ مخازن التفكير ثنك تانك think tank ومراكز البحوث القادرة حقا على قراءة الواقع وبوصلة التحولات، وعلى قول كلمة موضوعية صادقة شفافة في حق الوطن وفي حق القيادة وفي حق المجتمع بجميع أطيافه. ليس من المقبول أن نترك أمر إدارة هذه التحولات وإخراجها وأخذ بعضها في إتجاهات تسطحية أو استهلاكية محضة إلى شركات وبيوتات خبرة وإعلام أجنبية وإن أتى بعضها بأسماء سعودية عاطفية فإنه لا يعمل إلا بمحركات غربية جشعة. ولا أظن أن المطلوب اليوم هو مجرد التأمين على رؤية 2030 فقد جرى التغني بها بما ليس لصاحبها حاجة به ولا أشك أنه لم يطلبه.
إن مثل هذه المواقف «المستسهلة لمسؤولية اللحظة التاريخية» أو»المنتفعة منها» خصوصا عندما تأتي من بعض أصحاب الأقلام الذين لا يملكون في حقيقة الأمر أو كما يفترض بحسب المفكر الاجتماعي الفرنسي بوردوا من الرأسمال الاجتماعي إلا شرف الكلمة وقلق المعرفة تكون مواقف موجعة وباهظة لمجتمعهم ولقيادتهم وليس لهم شخصيا وحسب بما يذكرنا بكتاب المفكر والروائي الفرنسي جوليان بندا «خيانة المثقفين» التي من المفارقة أنها تتخفى في خطاب رطيب عذب أو مائع وتخفي أحلاما شخصية ضيقة في كلام فضفاض مضللاً عن الوطن وحب الوطن.