عبدالوهاب الفايز
إذا أردت أن ترى صورة حية لـ(توحش الرأسمالية) المعاصرة انظر إلى ما يحدث في غابات الأمازون.
العالم يرى صورة مؤلمة لما يجري هناك، والبرازيليون هم الأكثر حزنًا وهم يرون (رئة العالم) والمخزن العظيم للتنوع النباتي والحيواني تدمره شهوة الباحثين عن الثراء السريع، وهكذا يظل هذا البلد العظيم بثرواته البشرية والطبيعية يرزح تحت سطوة البنك الدولي والمتحالفين معه من الرأسماليين الكبار والشركات عابرة الحدود!
الأمازون يقدِّم حالة تتطور للتدمير البيئي الذي يهدِّد المناخ في العالم؛ فهذه الغابات توفر 20 % من الأكسجين الذي نتنفسه، وغاباتها الكثيفة تمنع خروج ثاني أكسيد الكربون، وتجريف الغابات يجعل الأمازون المصدر الرئيس الثالث بعد أمريكا والصين لمشكلة الاحتباس الحراري.
منذ شهر، ومع اتضاح حجم التدمير للغابات، واستمرار الحرائق، اتجه العالم بقوة إلى الاهتمام بالوضع الخطير هناك، وتم دعوة حكومة البرازيل إلى ممارسة مسؤولياتها، وتم تحذيرها من عقوبات اقتصادية وسياسية إذا لم تقبل بالاعتراف بالمشكلة، وتعمل حكومة الرئيس بولسونارو على وقف تدهور الغابات. والتقديرات تشير إلى أن 70-80 % من قَطْع الأشجار في الأمازون غير قانوني؛ وهذا يرفع التدمير إلى مستويات قياسية منذ تولي الرئيس منصبه في يناير الماضي؛ إذ تم اقتطاع 4300 كم من الغابات، وهذا يضاف إلى 8000 كم تم تجريفها منذ أغسطس 2017 حتى يونيو 2018، أي إن (الأشجار الآن تختفي أسبوعيًّا بمعدل يوازي مساحة مانهاتن!).
في العقود الأخيرة، ومع تطور الإيمان بـ (عقيدة النمو) المستمر والمتصاعد للنشاط الاقتصادي العالمي، حققت البشرية مكاسب لازدهار الحياة وارتفاع مستويات الرفاهية الاجتماعية، ولكن هذا لم يتحقق بدون مشكلات حقيقية، أدت إلى التدمير المستمر للبيئة، وبدون تضحيات كبرى لملايين البشر؛ فارتفاع مستويات التقدم الاقتصادي لم يكن يتحقق بآليات تضمن الحد الأدنى من التوزيع العادل للثروات والخدمات والمنافع.
حدة الاستقطاب السياسي، وتمركز الثروات، والصراع على المصالح، وترحيل المشاكل إلى الفئات الاجتماعية الفقيرة.. إحدى المشاكل الكبرى التي تنتج من انفلات الرأسمالية وتوحشها، وتطور حالة التناقض داخلها. الأزمة الاقتصادية العالمية القريبة منا أحد مصادرها الرئيسة ظاهرتان متناقضتان، أو ظاهرة الجبلين: جبل الديون المتراكمة عالميًّا التي تقدر الآن بـ220 تريليون دولار، وجبل الثروات المتراكمة التي تقدر هي الأخرى بمبالغ ضخمة.
انفلات الرأسمالية المعاصر هو امتداد ونتاج لما يُعرف بـ(crony capitalism)، أو الرأسمالية القائمة على تبادل المصالح والمحسوبيات الخاصة بين قطاع الأعمال والمسؤولين الحكوميين بسبب كثرة الأنظمة التي تتدخل بالشأن الاقتصادي. ومن أشكالها الحية المتسببة في تدمير البيئة نجدها في الدول التي يتواطأ فيها المسؤولون الحكوميون مع الشركات عبر السماح لها بتجريف الغابات، وتحويلها إلى مزارع، تنتج المحاصيل المربحة والقابلة للتصدير.
هذا الاقتطاع للأشجار في الغابات الكثيفة خطر علينا؛ لأنه يؤدي إلى خروج ثاني أكسيد الكربون المتجمع منذ مئات السنين في سطح الأرض.
عالمنا يواجه تحديات ومخاطر كبرى، يجلبها النمو الاقتصادي المتسارع. ويبدو أن البيئة سوف تجعل البشرية تواجه المخاطر متساوية في الأضرار. أما المكاسب الكبرى فسوف يفوز بها طبقة الأثرياء العظام الذين يراكمون الثروات بصوره غير مسبوقة.
من سلبيات تمركز المال، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}، نجدها في ثروة 26 شخصًا لديهم مقدار ما يملكه 3,8 مليار نسمة في العالم من الفقراء. وعدد الأغنياء تراجع إلى 26 بعدما كان يصل عددهم إلى 42 العام الماضي. وجاء في تقرير لمنظمة (أوكسفام) يناير الماضي أن (ثروة أصحاب المليارات في العالم ازدادت بمقدار 900 مليار دولار العام الماضي، بوتيرة 2.5 مليار دولار في اليوم، بينما تراجع ما يملكه النصف الأفقر من سكان العالم بنسبة 11 في المئة).
كمؤشر على (رأسمالية المحسوبية) ذكرت المنظمة أن عدد أصحاب المليارات في تزايد منذ الأزمة المالية عام 2008؛ وهذا بسبب أن (الأثرياء لا ينعمون بثروة متزايدة فحسب، بل كذلك بنسب ضرائب هي الأدنى منذ عقود). المنظمة دعت إلى فرض المزيد من الضرائب على هؤلاء الأغنياء، وهي الدعوة نفسها التي وجهها قبل أسبوعين عدد من أبرز الأثرياء في أمريكا إلى الرئيس المنتخب القادم بضرورة دعم (ضريبة ثروات) على الأغنياء لتعزيز المساواة ومكافحة التغير المناخي، وذلك في خطاب مفتوح موجَّه إلى المرشحين.
انفلات الرأسمالية هو الذي يدعم المخاوف من حرب قادمة، والمواجهة الحالية بين الصين وأمريكا تنذر بذلك.. ألم يُقَل: الحرب أولها الكلام؟!