د. عائشة الفيحان
إذا أردت إضعاف أي جماعة فعليك بتقسيمها إلى جماعات، والتقسيم لا يأتي بشكل مباشر في العادة، بل بصور متعددة، وأخطر صوره التقسيم الناعم الذي قد نشارك فيه جميعًا دون وعي منَّا، وهو التقسيم الذي يستهدف الأفراد، ويعمل على تصنيفهم وفرزهم إلى تيارات وطوائف وفئات غير متجانسة، بهدف تفكيك المجتمع ليسهل ابتلاعه لاحقاً.
الخطير في الأمر أن أبناء المجتمع يشاركون في هذا الأمر دون حسبان للعواقب، إما بتصنيف أبناء جلدتهم بناءً على تأويل خاطئ لرأي عبّروا عنه، وإما بفرزهم بناء على سلوك معين لا يقصد صاحبه منه ما يُفْرَزُ بناء عليه، وهو ما يرسم صورة سلبية عنهم، قد تكون نتائجها مؤذية للروح، وتلحق الأذى بالآخرين وجوديًا، لاسيما إذا كان ذلك يمس هويتهم وكرامتهم وانتماءهم، ويشكك في مبادئهم وقيمهم ووطنيتهم.
إن تصنيف الناس بشكل عشوائي وارتجالي لم يعد بأمر صعب في زمن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه تصنيف في معظمه غير محسوب العواقب ومبتذل، وغير حصيف، إذ إنه يتم بناء على قراءات عابرة لمنشورات يكتبها المرء في هذه المنصة أو تلك بعفوية وبراءة ونقاء دون حسبان للقراءات التي لا تخلو من غرض ما للقارئ الذي قد يحمّلها ما لا تحتمل، وهي قراءات أقل ما يمكن أن يقال عنها: قراءات عبثية، تصدر عمن لا يملكون أدنى أسس تحليل الخطابات؛ أو ممن يحاولون تلميع أنفسهم بما يقومون بإطلاقه من تصنيفات على حساب غيرهم.
إن ما يُنشر في معظم الأحيان يتم تصنيفه، وتصنيف الكاتب أيضًا بناء عليه، ويتم التصنيف والفرز عادة على أساس عرقي أو حزبي أو فئوي أو عشائري، حتى أنه ينتج عن ذلك تشكيك في قيم صاحب المنشور ومبادئه ووطنيته ودينه، بل وفي أحيان أخرى تصدر فتاوى من قراء عابرين أقل ما يمكن أن يطلق على قراءاتهم القراءات العبثية المفرطة في تدليسها؛ لأنها قراءات مفخخة تهدم وتدمر وتسيء؛ من حيث إنها تعمد إلى الفرز، والتصنيف على هوى من يُصَنِّفُ ويفرز.
إن من الخطورة بمكان أن يقوم قارئ ارتجالي بتصنيف أي إنسان بناء على كتابة عابرة، أو منشور صغير لا يعبر عن أي فكرة شمولية، وإن عبَّر عن فكرة صغيرة فهي فكرة مبتورة، لا تحتمل ما يحاول بعض القراء تحميلها، كما أن من الخطورة المزايدة على وطنية أحد من خلال منشور عابر؛ لأن التشكيك في وطنية أي فرد يعشق الوطن حد الذوبان فيه؛ أمر أقل ما يمكن أن يقال عنه عبث مركب.
إن أبناء الوطن جميعًا يرفضون مثل هذه الممارسات العبثية؛ لأنهم يؤمنون أنه كلما اشتدت المحن على هذا الوطن يزداد فيهم شعور الانتماء والالتفاف حوله، فالوطنية شعور ينمو في النفس ويزداد وهجه في القلوب كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه، وفي هذه المواقف تقاس الوطنية وتقاس قيمة الانتماء، فنحن أحوج ما نكون إلى الوحدة لا إلى التفرقة والتصنيف والعيش في عزلة.
إن الدين لله والوطن يتسع للجميع، فكل من يحب وطنه ويعتز بالانتماء إليه لا تعنيه مسائل الفرز، ولا تعنيه تصنيفات العرق والطائفية والحيز الجغرافي الضيق، كما لا يعنيه الانتماء إلى غير وطنه باعتباره كلاً متكاملاً شعبًا وجغرافيا وقيادة، ولا يعنيه كل ما يغرد خارج سرب الوطن والوطنية بأي شكل من الأشكال. ونتيجة لذلك كله: إن التصنيف القائم على رأي عابر أمر عبثي، بل مفرط العبثية، يقول الشاعر:
وما المرء إلا بإخوانه
كما تقبض الكف بالمعصم
** **
- جامعة حائل