د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
وعينا مصطلحَ «التعرية» في كتابات الجغرافيين، وراق لبعض مدارسهم تسميتُها «التجوية»؛ فانتسبت إلى الجوِّ ببعديه «الكيميائي والميكانيكي» فنأت عن التعري إلى التحري، أو لنقل وجدت بديلا عنه إذ لم يعد خاصًا بما يحدث للحجر دون إرادة بل امتد إلى البشر بإصرارٍ وإشادة، وإذا كان عريُ «الصخور» درسًا واحدًا في الطُّروس فإن عري النفوس مجموعة دروس.
** يلتفت الأكثرون إلى عري الجسد بوسمه سُبّةً للسلوك الفردي لمن يجترحه، وفنًا للإبداع الجمعي لمن يرويه أو يرسمه، والنقاش هنا غيرُ حاسم إلا عبر القيم الخاصة لكل مجتمع، ولكنّ ما يمكن حسمه - بصورةٍ عامة - عريٌ داخلي وخارجي ذو إيقاعاتٍ ومواقع تُخرج الخَبْءَ وتكشف النبَأَ وتجعل المستتر ظاهرًا والمُغيَّبَ منتشرًا دون أن يُخصفَ عليها شيءٌ من إيراق الحياء أو ورق الأحياء، وأقساها عريُ العقول والضمائر التي لا يكاد يخلو من سلبية انعكاساتها شادٍ يبحث عن الطريق أو شيخٌ غادره البريق.
** عبرت هذه التداعيات حين البدءِ بقراءة الصفحات الأولى من رواية علاء الأسواني «جمهورية كأنّ» - دار الآداب 2018م- فقد رأى نفسه أمام شخصية متدينة ودودة لطيفة يؤدي حق الله ويرأف بعباده، فلم يكد يتخطاها حتى حل مكانه شخصٌ قاسٍ شريرٌ لا يخاف الله ويعتدي على حرمات عباد الله؛ فكيف يكون هذا هو ذاك؟ وهل تصل الازدواجية في النفس البشرية حدَّ التناقض أو التصادم؟ وهل الستر الخارجي واق من العري الداخلي؟ وأيهما الأدعى للرثاء؟ من يواجه الناس بحقيقته كما هي ومهما تكن أم من يُرى بصورةٍ لامعة وواقعُه منطفئ، ومن يدَّعي الجمال والقبحُ يتبرأ منه؟
** لا تعنيه بقيةُ فصول الرواية وإن كانت تصب في المسار نفسه مع الواعظ والناظر وغيرهما؛ فالمفاجأة الصادمة جعلت صاحبكم يُنحِّيها جانبًا ويدلف إلى معادلة التجوية الرديفة للتعرية؛ فكيف ندرسُ الحجر ونحلل ميكانيكيته وكيميائيته وندعُ الفرد التائه في إساره يمارس التعري الطوعيَّ مادام ظاهرُه متدثرًا بإزاره الرّديم الذي استخفى به من أُزُره المتلونة.
** ولعل الاستفهام الأهمَّ هنا موصولٌ بنوعية التعرية والتدثر المرتبطة غالبًا بالمظاهر المتدينة شكلًا؛ فهل المتدينون هم الأغلبية عددًا بين المتلونين أم الأقوى تأثيرًا أم الأضعف حصانة؟ أو ليس في الضفة الأخرى من هم أسوأُ باطنًا وأشد ازدواجيةً وأقرب للمزاج « المتعري-المتدثر»؟ وإذ لا إحصاء فلا إجابة غير أن الظن بالفريقين تمثيلُهما «شهابَ الدين وأخاه»، و»عَمْرًا وخالدًا» المتثائبين، والحراكُ المجتمعي يحدد مع من تميل الكفة أو إلى أين تتجه البوصلة.
** سنعود إلى نظرية «التربة والتربية» -التي يتبناها صاحبكم- فلعل التربة الطبيعية المعرضة لعوامل التعرية تُخلي مواقعها الهشة للتربةِ الصلدة الآمنة بما يُعززُ منطق التربية المتجذرة تكوينًا وتكييفًا فلا تنفذ إليها عوامل التعرية ولا يستوطنها العراة المتدثرون.
** قد يكون السترُ عريا.