د. محمد بن إبراهيم الملحم
علمي أو أدبي، هندسة أو طب أو علوم إدارية أو إلخ... هذا السؤال تحد يمر به كل واحد منا كآباء مرتين في عمره الأولى عندما كان طالبًا، والثانية عندما أصبح أبًا (أو أمًا) فيطرق بابه أبناؤه للاستشارة والواقع أنه يتكرر في العدد أكثر من مرتين (في الثانوية والجامعة وأيضًا بعدد الأولاد كلهم) ولكن أقصد مرتين من حيث جنس الشيء في صورته العامة، وهو من أسئلة الحياة المهمة فمن خلاله يتحدد مصير مستقبل ومسار بقية المرحلة، ولا أجزم أن مقالتي هذه ستساعدكم كثيرًا على الإجابة المثالية لكل أب أو أم أو حتى للطالب الذي يقرأ سطوري هذه لعلها تروي ظمأ تعطشه للطريق، لأن الأمر ليس بهذه السهولة ويخطئ من يتناولونه بسطحية مفرطة في محاضراتهم وأطروحاتهم أو كتاباتهم، الإرشاد المهني أو Career Guidance هو مجال كامل من الإرشاد التربوي بأدواته ومناهجه وطرائقه ولكنه غائب تماما لدينا ففي حين توجد بالغرب مراكز حكومية ومؤسسات خاصة لهذه الخدمة كما توجد ثقافة متأصلة لضرورة الاسترشاد فإن مثل هذه معدومة تماما لدينا كما أن الثقافة تكاد تكون صفرا وإيمان الناس بالاسترشاد ضعيف ضئيل بل إن المسؤولين أنفسهم يعرض عليهم المهتمون المسألة وإشكالياتها ويقرون بأهميتها لكنهم لا يبذلون من أجلها الكثير من الجهد والمال والمتابعة الجادة لينتج عن هذا الجهد ثمرة خلاقة، كل ما تراه هو برنامج هنا أو مشروع هناك بشكل متواضع وأحيانا غير علمي وإنما يأخذ قشور الموضوع ويظهر بمظهر جذاب وكأنما سد الفجوة، ما نتوقعه هو مجموعة مراكز متخصصة بها أشخاص مؤهلون في أرقى المؤسسات العالمية لا مجرد حاملين لشهادات ماجستير أو حتى دكتوراه دون ممارسة (أو حتى معايشة) في تلك المؤسسات المرموقة، ويفترض أن يصبح هؤلاء عملاء التغيير لنشر الثقافة الجديدة على أسس متينة من المعرفة وأفضل الممارسات ويدعمهم في ذلك مجموعة من الأدوات المجربة والمضبوطة معياريا standardized ومعها كل ما يلزم من قواعد المعلومات المحدثة عن فرص الوظائف في المملكة بحسب التخصصات التي تتطلبها تلك الوظائف ومعايير التوظيف فمثلا في الولايات المتحدة هناك مواقع تقدم لك إحصائيات وتوقعات عن الوظائف الممكنة خلال سنوات تخرجك من الجامعة حسب التخصص الذي ستلتحق به وهذه بنيت على قاعدة معلومات محدثة حول الوظائف المتاحة هناك وخريطتها المكانية والزمنية (استنادًا إلى توقيتات التقاعد والاستحداث بالنمو وما إلى ذلك)، وأن أن صندوق الموارد البشرية في سعيه لدعم التوظيف يسعى إلى مرصد وطني للوظائف من هذا المستوى وأرجو أن يوفق إليه، أما حاليا فلا يوجد سوى الاجتهاد وسؤال أهل الخبرة خاصة ممن يعملون في الموارد البشرين والمدراء حول فرص العمل المتوقعة ليستطيع الطالب أو ولي أمره تقرير أين يتجه ويشتد هذا الأمر لأولئك الذين يختارون تخصصات غير المشهورة أقصد غير الطب وهندسة البترول مثلا، فمثلا على الرغم إن تخصص المحاسبة مهم إلا أن كثيرين يترددون فيما إذا هناك فرص عمل تستوعب الخريجين كما أنه لا يعلم كم نسبة الخريجين العاطلين عن العمل حاليا! والكلام ليس على الخريجين بمعدلات متواضعة فهؤلاء باتت فرصهم ضئيلة بدون شك حاليًا وإنما حول الخريج بمعدل فوق المتوسط مثلا!
وعند الحديث عن المعدل فإني عادة أنصح أي شاب أو شابة يستشيروني بأن يتخصصوا في المجال الذي سيضمنون أنهم يحققون فيه أعلى معدل ممكن حتى لو كانت فرصه الوظيفية أقل من غيره، لأن معايير التوظيف في سوق العمل عندنا (الحكومي والخاص) تنطلق في المقام الأقوى من المعدل كوسيلة للتخلص من مسؤولية الاختيار بالوسائل الأخرى التي تتطلب مهارة مقابلات وإجراءات اختبار وفترة تجربة وما إليه، وخاصة أن المؤسسات تعلم عن ذاتها أنه ما إن يدخل الموظف إلى العمل حتى يصعب التخلص منه بحجة «عدم التمكن»، ولا سيما أنها تدرك ضعف أدواتها التقييمية ومهارات مشرفي العمل المرتبطة بذلك، وهذا بعد آخر للمعضلة، وعندما أقول للشاب اختر التخصص الذي ستحقق فيه معدلات عالية فهو غالبا مكافئ كثيرًا لما يقوله مختصو الإرشاد المهني: اختر التخصص الذي تحبه وتهواه، لأن ذلك سيجعل حياته الدراسية ممتعة ومنسجمة مع حالته النفسية وهو بعد مهم جدًا يغفله كثير من الآباء مع الأسف. وهناك درجات لهذا المجال فلا يعني أن يلتحق الإنسان بأي مجال يهواه فمثلا لو علم عنه إنه مضمحل تماما في سوق العمل ففي مثل هذه الحالة المتطرفة ينبغي له أن يبحث عن درجة ثانية في ما يهواه ولكن له فرصة وظيفة معقولة ليكون هو قراره في التخصص. هل هناك نصائح أخرى؟ نعم، وسوف أتناولها بإذن الله.