د. حمزة السالم
استُخدم القوت كثيرا، كثمن في مراحل زمنية مرت بها الإنسانية. فكان صاع شعير مثلا يأتي بنعجة. فالقيمة في الشعير وليس في الصاع، فالصاع وحدة قياس عدمية، وإنما هو مجرد أداة قياس لقيمة الشعير، الذي يأتي بالنعجة. والعدد كذلك، أداة قياس لحبات الشعير العشر، التي تأتي ببيضة. والدينار والدرهم أوزان، فهي وسائل قياس للذهب والفضة. والشاهد أن وسيلة الوزن لا اعتبار لها في القيمة، بل أن الاعتبارية تكون في الموزون. فالقيمة يُمثلها الشيء المُقاس، لا وسيلة القياس. والمقصود: أن ثمن الأمس كان أداة قياس والمقُاس بها، كصاع بر أو درهم فضة. أما اليوم فالثمن أداة قياس فقط، فهو إذا عدم. والعدم شيء، فهو إذا خلق من خلق الله. قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
فالعملات النقدية الحديثة، وسيلة قياس كالصاع والمثقال، فهي وسيلة خالية من قيمة حقيقية فيها، فهي ليست كصاع تمر مقابل نعجة.
وبعبارة أخرى: العملات السابقة، كانت تحتوي على قائس ومقيس. أي أنها كانت أداة قياس -كوزن دينار- والشيء المقاس به -كنعجة- مقابل الشيء الذي تحتويه أداة القياس -كذهب-. وأما اليوم، فالعملات إنما هي فقط أداة قياس يُقاس بها قيمة الطرف الآخر، سلعة كانت أو خدمة، -كريال-. (أما العدد فهو وسيلة لازمة للقياس بأي أداة، سواء بالوزن أو بالحجم، فالعدد يدخل في كل وسيلة قياس).
فنقود اليوم هي كالصاع وكالمثقال والمتر والكيلو، ما هي إلا وسيلة قياس مجردة، ولكنها لا تتضمن شعيرا ولا ذهبا ولا فضة، إنما تحوي عدما (مجرد أرقام في حواسب الكمبيوتر)، تمثل قيمة مطلقة، يحددها السلعة أو المنفعة المقابلة لها.
والاستهلاك يضعف قابلية الشيء لأن يكون ثمنا (نقدا)، لذا كلما قلت الحاجة لاستهلاك الشيء كلما زادت احتمالية اتخاذه ثمنا. فالأثمان السلعية، كالذهب والقمح والنفط، لها قيمة لذاتها الاستهلاكية، وتكتسب قيمة مضافة إذا ما اتخذت أثمانا، فالثمنية لها قيمة مستقلة عن ذات الثمن.
وبما أن نقود اليوم عديمة الاستهلاك وهي مجرد وسيلة قياس لقيمة تمثل قيمة ما تُشترى به، لا قيمتها في ذاتها، وهي لا قيمة لها في ذاتها، فهي إذاً أثمان محضة. وبالرغام من عدميتها، فإن العملات أموال عدمية محترمة. إذا فنقود اليوم تُعد مالا من الأموال، طالما أن عليها طلبا، فهذا يعني أن له قيمة وأن قيمته قائمة مطلوبة. وما المال؟ المال هو كل قيمة مُحازة تُتملك وتُباع وتُشرى، فالنقد وإن كان في حقيقته عدما، مجرد وحدة قياس كالصاع والمتر والكيلو والجرام، إلا أنه داخل في حد تعريف المال، فهو إذاً مال يأخذ أحكام الأموال.
وهنا يتبين لنا أن الصرف وشراء العملات الحديثة بعضها ببعض اليوم، هو في الواقع شراء لقيم عدمية، أي تجارة وتبادل بالعدم. وتجارة العدم، ليس أمرا افتراضيا فلسفيا، بل أن أعظم تجارة عالمية هي تجارة العدم، ألا وهي تجارة المشتقات، فالمشتقات أموال عدمية محترمة. وقيمة المشتقات تساوي أكثر من عشرة أضعاف الإنتاج العالمي، ولكنها تجارة في العدم، فلا وجود لها حقيقة، إنما هي غالبا مقامرات على أسعار المستقبل، أو تحوط لها. فما تجارة أعظم سوقين في العالم، إلا تجارة بالعدم، وهما أسواق العملات وأسواق المشتقات، وفوق كل ذي علم عليم.