د.عبد الرحمن الحبيب
في رواية «صمت الحملان» الذي تحول إلى فيلم نفساني مروع عن العدوانية البشرية وحصل على عدة جوائز أوسكار، تصدمنا المقولة اللا سببية بواقعية مجردة عن الإرهابيين للطبيب النفسي اللامع: «لا شيء تسبب في وجودهم، إنهم موجودون»؛ أي أنهم بإرادتهم الكاملة وبكينونتهم المستقلة وبدون خداع من أحد أو غسيل دماغ، مهيئون للعنف وللأعمال المدمرة للنظام الاجتماعي المستقر..
هذا الوصف المخالف لأغلب ما يُطرح يشابه دراسة نشرتها مجلة أتلانتك بأن غسيل الدماغ ليس سبباً للتطرف بل إن الأفراد الذين ينجذبون لمنظمات إرهابية يعتقدون أنهم يدافعون عما يعتبرونه قضية عادلة، وينضمون لهذه الجماعات بمحض إرادتهم؛ والكثير منهم مجندون ذاتيون يسعون بنشاط لأعمال العنف.. ويؤكد الاستنتاج النهائي للدراسة بأن الإرهاب مفهوم أخلاقي بالمقام الأول، وليس فكرياً، ولا يتعلق بالفشل الذي يزعمه الكثيرون.
بيد أن الدراسات الكلاسيكية تشير غالباً إلى أن الانضمام للحركات المتطرفة هو في الغالب نتيجة أحد سببين: الأول فكري بتبني فكر متطرف أو تعرض لغسيل دماغ.. والثاني سلوكي نتيجة فشل لأفراد يعانون العزلة أو الضياع والسلوك المنحرف أثناء المراهقة، وتقوم المنظمات المتطرفة باحتضانهم وتمنحهم الشعور بالانتماء وما يشمله من الشعور بالهدف والإحساس بالهوية والاعتداد بالذات.
كما تتفق كثير من الدراسات على أن إيديولوجية التنظيمات المتطرفة سواء كانت دينية أو قومية تمر بثلاث مراحل.. تبدأ أولاً بتقسيم العالم إلى معسكرين: الخيّر (نحن) والشر (الآخرون).. ثم ثانياً بالاستعلاء على الآخرين، كوسيلة لاستعادة الثقة بالنفس وتقدير الذات، وتقوية مشاعر الانتماء للجماعة والإحساس بالهدف وأن لديهم قضية يخاطرون بحياتهم من أجلها؛ وفي الأخير تجريد الآخر من إنسانيته لتبرير أعمال العنف ضدهم.. وببساطة المتطرفون ينكرون إنسانية أولئك الذين لا يشبهونهم..
لكن تختلف المدارس والآراء في تفاصيل دوافع الانضمام للمنظمات المتطرفة، ومن ثم تختلف في إيجاد الحلول لمواجهته. الرأي الأشهر هو أن الانضمام للتنظيمات المتطرفة هو نتيجة فكر متطرف. هذا ما يعارضه أوليفر روي في كتابه «الجهاد والموت»، بأن الجهاديين المعاصرين، خاصة أولئك الذين شاركوا في هجمات إرهابية بأوروبا، هم بالأساس غير متحمسين لأيديولوجية الإسلام الراديكالي قدر إحساسهم بالعدمية: الشعور بالضيق الذي يتشكل نتيجة العزلة في المجتمع والانفصال عن الواقع والتمرد.
كذلك لا يرى مايكل كيميل، مؤلف كتاب «التعافي من الكراهية»، أن الفكر المتطرف من العوامل المهمة التي تجذب الشباب للانضمام للتنظيمات اليمينية المتطرفة لأن أكثر المشاركين فيها لم يتمكنوا من تفسير فكر تنظيماتهم، وقد لا يفقهون في المسائل الفكرية شيئًا. وأن دراسة تجربة كل عضو من أعضاء التنظيمات المتطرفة على حدة والتعامل معها بشكل مستقل ستساعدنا في تشجيعه على الانفصال عن التنظيم.
وفي كتابه «العنصرية والعنف اليميني بالدول الاسكندنافية»، يقول تور بيورغو أن هناك مجموعة من «عوامل الدفع والجذب» التي قد تؤدي إلى خروج الأشخاص من المنظمات المتطرفة؛ وغالبًا ما تتضمن عوامل الدفع فقدان الثقة بأيديولوجية المنظمة أو خيبة الأمل من إستراتيجيتها أو قيادتها أو أعضائها أو أفعالها أو ببساطة الإرهاق، في حين أن عوامل الجذب قد تشمل العلاقات الشخصية أو العمل أو السجن.
بالمحصلة، يبدو أن ثمة شبكة من العوامل الاجتماعية والنفسية والعاطفية التي تدفع بالأشخاص للانضمام للمنظمات المتطرفة، إلا أن الادعاءات الأخلاقية تشكل ركيزة أساسية تستثمرها الجماعات الإرهابية في تبرير إيديولوجيتها؛ ومن ثم فالمهمة الرئيسة لأي برنامج لاجتثاث جذور التطرف هي فضح هذه المغالطة ومواجهة الإرهابيين بوحشية أعمالهم المناقضة لأبسط الأخلاقيات الإنسانية. لكن كيف يتم ذلك؟
يتم عبر دحض هذه الادعاءات الأخلاقية، وكشف زيفها بمواجهة الإرهابيين بوحشية أعمالهم من خلال الاتصال المباشر بينهم وبين الألم والمعاناة البشرية التي سببوها للضحايا الأبرياء ولأهلهم. هناك أدلة قوية، أوضحتها عدة دراسات، بأن تلك الطريقة نجحت بأماكن العدالة الجنائية التقليدية، وأن المجرمين الذين يواجهون ضحاياهم هم أقل عرضة لارتكاب خطأ آخر. وربما تنجح هذه الطريقة مع الإرهابيين إذا منحناهم نفس القدرات الأدبية والفكرية التي نمنحها بسهولة لأنفسنا، (تقرير أتلانتك).
أما المواجهة الفكرية فهي لا تجدي نفعاً مع المتطرفين، بل قد تؤدي لنتائج عكسية لأنها قد تدفع بالمتطرف للبحث الانتقائي المنحاز لما يدعم وجهة نظره، كما أظهرت كثير من التجارب. لذا تفضل بعض المؤسسات التي تتصدى للفكر المتطرف، مثل «إيكسيت» وهي من أشهر المؤسسات بأوروبا، تحليل الدوافع التي تحمل الأفراد على انتهاج التطرف لمساعدتهم على التخلي عنها، بدلاً من المواجهة الفكرية.
وتشجع مثل هذه المؤسسات عملاءها على التفكير بالأسباب (وليس الأفكار) التي دعتهم للانضمام إلى التنظيم المتطرف، وكيف أثر ذلك في طريقة تفكيرهم (وليس في أفكارهم)، ومن ثم تفسيرهم لكل ما عايشوه، التي أصبحت مع مرور الوقت تتم عبر عدسة أيديولوجية ضيقة يقيمون بها الآخر. كما يمكن مساعدة المتطرفين السابقين بخوض تجارب اجتماعية جديدة وتفسيرات جديدة للأحداث، لمساعدتهم في خلق تصورات حول كيفية الارتباط بالعالم والآخرين، والحصول على المعلومات من مصادر مختلفة.. وبهذه الطريقة يتم تقليص الفروق والمسافات التي كانت تفصلهم عن الآخرين، مما يجعل الحاجة إلى الأفكار المتطرفة العنيفة تتناقص وأقل جاذبية..