د.فهد نايف الطريسي
* تطلق كلمة نظام على كل علاقة مطردة بين شيئين أو أكثر، بحيث يتشكل عن تلك العلاقة نسق؛ فيمكننا من خلال التأمل والتدقيق في هذا النسق؛ أن نستخرج القانون الذي يحكم الاتصال بين تلك الأشياء المختلفة.. (الفعل ورد الفعل).
* أما القانون (باعتباره تشريعًا وقواعد سلوك) كنظام؛ فهو يقوم بعملية عكسية، حيث يقصد من وضع القانون انتاج أنساق. فالنظام.. (بمعناه الواسع ينتج قانونًا)، والنظام (بمعناه التشريعي)؛ ينتج (عن قانون).
* من الضروري أن نفهم ذلك قبل أن نتحدث عن سن القوانين، وضوابط وتقنيات صناعة القانون law making.
* الاختلاف بين فن وصناعة التشريع:
تعتبر صناعة التشريع؛ عملية شاملة واسعة، بحيث تتضمن فن التشريع. صناعة التشريع تتم عبر معرفة واسعة بمبادئ القانون كلازمة ضرورية، مع معرفة بنمط المنظومة القانونية مثل: (معرفة أنماط الجرائم والعقوبات.. قِصاص حدود تعازير)، ليتم تمييزها عن غيرها من أنماط المنظومات المقارنة الأخرى: (جنايات، جنح، مخالفات.. على سبيل المثال). وكذلك معرفة مصادر القانون: (الشريعة الإسلامية.. كما هو الحال هنا، وما ينبثق عنها من تفاصيل فقهية).. معرفة نمط المنظومة القانونية هو أول ما يجب أن يوضع في الاعتبار؛ عندما يتم سن القانون (النظام). أما فن التشريع: The Art of Legislating، فهو البناء الإبداعي الشكيلي للنص القانوني.
فالصناعة هي بناء ميكانيزم القانون، والفن هو انبثاق القانون إلى الوجود بطابع جمالي؛ يعكس تكلفة تلك الصناعة.
* وعلى هذا؛ فالتشريع ليس مجرد استنساخ القوانين من الأنظمة الأخرى، وإنما قد يحتاج لإحدى آليتين:
الأولى: عندما يكون محل التشريع (موضوعه) حديثًا، أو شديد الالتصاق بخصائص الدولة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ، فهنا لا سبيل إلى اللجوء إلى الأنظمة المقارنة.
أو إذا لم يكن الموضوع كذلك؛ فالاعتماد على الأنظمة الأجنبية لا يتم فقط عبر القص واللصق، بل عبر الدراسات المقارنة المتعمقة، بحيث لا يأتي القانون ناشزًا عن المنظومة القانونية المتكاملة للدولة.
* والعملية التشريعية في كلتا الحالتين؛ تتم عبر توسيع دائرة البحث النقدي والفكري، لتتجاوز علم القانون، وتتماس مع باقي العلوم الإنسانية والطبيعية الأخرى. فقانون العمل مثلا؛ يجب أن يمثل فيه العمال وأصحاب العمل والأخصائيين الاجتماعيين والاقتصاديين وفقهاء القانون الدولي العام؛ لتحديد الالتزامات المتبادلة بين العامل ورب العمل. والقوانين التي تنظم العمل الصحي في الدولة؛ تحتاج لوجود قانونيين، وإلى جانبهم أطباء وإداريين ومتخصصين في إدارة الموارد البشرية ورجال الدين...إلخ.
* وهكذا تتكامل صناعة التشريع بفن التشريع، وينتج ما يسمى بإبداعية التشريع Legislative Creativity.
* لقد اتجه البعض إلى نقد سرعة صناعة القوانين في المملكة، والبعض انتقد بطء صناعتها، والحقيقة أن عملية صناعة التشريع تحدد زمنها بنفسها، بحيث تكون الإطالة الزمنية مفيدة أحيانًا، أو مناسبة أحيانًا أخرى، أو ضارة بحسب الأحوال.
* يتطلب تطوير القوانين متابعة لصيقة للواقع الداخلي للدولة وللعالم الخارجي.. (السياسي والتكنولوجي والثقافي)، كما يتطلب التطوير فوق هذا؛ تلمس الضمانات اللازمة، التي لا تحول القانون إلى آلية تبعث على الفوضى بدلا عن النظام، أو الظلم بدلا عن العدل.
* إن كل ما ذكرناه آنفًا ليس سوى ملخص لقضية ضخمة، تحتاج لدراسات بحثية عميقة بقدر عمق إشكالية وتعقيدات صناعة التشريع وفنه. وهذا ما يدعوني إلى مناداة كليات القانون ومراكز البحوث القانونية؛ إلى توجيه باحثيها من طلبة الدراسات العليا أو أساتذة الجامعات، إلى توجيه أبحاثهم نحو هذه الوجهة في البحوث التركيبية الأكثر فاعلية من البحوث القاعدية المكررة، التي تجتر ما صار معلومًا من القانون بالضرورة.