م. بدر بن ناصر الحمدان
في عام 1890م، قام «صاموئيل وارين» و»لويس بارنديز» بنشر مقال بعنوان: «الحق في الخصوصية»، تضمن الترويج لمشروع قانون مدني عن «حق المرء في أن يُترك وحده»، وأثار حينها موجة من الجدل حول حقوق الفرد في الانعزال والانحسار والابتعاد عن المجال العام، وظهرت لاحقاً عدد من الآراء حول مفهوم الخصوصية، وبالرغم من اختلاف هذه التعريفات إلا أنها كانت تتمحور في أغلبها حول مصطلح يشير إلى نطاق «الحياة الخاصة» بإبعادها المختلفة.
من منظور «عمراني» بحت، يمكن القول إن هاجس الخصوصية في فترة ماضية ساهم وبشكل رئيس في نشأة «عمران متطرف» أدى إلى ظهور نماذج في غاية الانغلاق والكآبة، وأفرز نماذج لعمران «أحادي» يفتقد لأهم مظاهر الحياة، أدت في مجملها إلى خلق بيئة عمرانية «منعزلة» على المستوى الوظيفي، وانعكس ذلك وبشكل كبير على تدمير «غير مباشر» لتركيبة النسيج الاجتماعي على مستوى الفراغ العمراني العام وشبه العام وحتى على المستوى الخاص.
يمكن القول إننا فشلنا طوال فترة مضت في التعامل مع «الخصوصية» كأيقونة لتنظيم «القيم الإنسانية» في الأماكن العامة، ولم نحسن توظيف أبعادها الرئيسة في تشكيل الفراغ العمراني «الحي» والتحكم بأنظمته الملحقة لإيجاد بيئة آمنة عمرانياً واجتماعياً، لم نستوعب حينها أن الخصوصية في العمران لا تعني الفصل التام والعزلة الكاملة للإنسان عن محيطه.
في رأيي الشخصي أن المدن السعودية -على سبيل المثال- ما زالت تعيش حالة من التناقض الواضح في تعاملها مع شكل وتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة في الأماكن العامة بمختلف استخداماتها وما يرتبط بها من أدوات إرشادية توجيهية، وما زالت هذه المدن تمر بمرحلة مخاض حرجة، لم تمكنها من تعريف هذه العلاقة، ولم تحسم موقفها منها حتى الآن، وانعكس تأثير ذلك على نمط توظيف عناصر التصميم المعماري والعمراني وتركيبة البيئة الحضرية وأنظمة إدارتها وتشغيلها «بشكل مربك».
ثمة فوبيا «غير مبررة» تجاه تواجد الرجل والمرأة في مساحة واحدة رغم أنه نموذج قائم ومنظم «اعتبارياً» داخل أروقة مجتمعنا منذ زمن خاصة في الأماكن العامة مثل المنتزهات والأسواق والمستشفيات والمطارات والشواطئ وأماكن الفعاليات والمعارض الموسمية وغيرها، وسط بيئة معنوية مقننة، تحكمها قوانين مجتمعية، وتتحكم بها طبيعة تعايش ترتكز على قدر كبير من الثقة واحترام الآخر، وهو امتداد فطري لخصائص النسيج الاجتماعي الذي كان قائماً في القرى والمزارع وحياة البادية في فترة ماضية.
هذا التناقض كان نتيجة لعدد من المؤثرات الأيديولوجية «الموجهة» و»المكتسبة» التي ساهمت وبشكل كبير في خلق صورة ذهنية سلبية عن علاقة الرجل بالمرأة، اعتمدت بداية على الافتراض الأسوأ وليس الافتراض الأحسن، ونهاية بالتأسيس لحالة تشاؤمية مقلقة تتنافى مع فطرة التعايش البشري المبني على «الأصول» و»حسن النوايا».
أعتقد أننا بحاجة ملحة إلى إعادة تعريف مصطلح «الخصوصية العمرانية» عند التعامل مع تخطيط وتصميم الأماكن العامة على وجه الخصوص ومحاولة توظيفها وفق «عقلية» متزنة تضمن نشأة بيئة محافظة على أساس «مرن» يتيح خيارات متعددة ونماذج عمل قادرة على التفاعل مع المتغيرات التي طرأت على نمط الحياة في البيئة المحلية بعيداً عن «التخندق» في دائرة «إقصائية التفكير»، أو الاستسلام لنظرة أحادية من شأنها عزل مجتمع المدينة عن مكونات الفضاءات العامة، وفرض حالة من «الجمود» في علاقته مع الآخر.
نحن باختصار، نريد بناء عمران «قابل للحياة» لا أكثر.