في ليلة من ليالي الصيف الجميلة سعدنا بحضور افتتاح سوق عكاظ الذي أُطلق عليه وصف ملتقى (البلغاء والحضارات وموسم القوافل والتجارات)، الذي يذكّرنا بالماضي التليد، وينقلنا إلى الحاضر المجيد عروضًا وأشعارًا وغناء، جمعت القديم بالجديد في صورة موسيقية عذبة، عزفت أنغامها بكل جمال في حضور جماهيري كبير، تفاعل بما عُرض وقُدم، وتنقلت به الذاكرة جامعة أجواء الماضي بالصورة والمعلومة والتمثيل.. يا لها من مشاعر جملية، حفت بالحاضرين، عكست جمال الماضي والحاضر؛ إذ تتواصل فعاليات سوق عكاظ، هذا المَعْلم الثقافي والتاريخي الذي له أثره الحضاري؛ إذ يتجدد شوقنا وفرحنا بهذا الحدث الوطني الذي يزيدنا معرفة وشوقًا لفعاليات تراثية، تثير عبق الماضي، وتجدد الحاضر. فكلمة عكاظ في اللغة تحمل العديد من المعاني، وجميعها صالحة لتعليل تسمية عكاظ بهذا الاسم. فقد كانت العرب تجتمع في عكاظ بعضهم مع بعض، أي يقهر ويعرك بعضهم بعضًا في الأدب والشعر والتجارة. وقال البعض: إنها من التعاكظ أي التفاخر. ويعتبر سوق عكاظ أحد الأسواق الثلاثة الكبرى في الجاهلية، إضافة إلى سوق مجنة، وسوق ذي المجاز، وكانت العرب تأتيه لمدة 20 يومًا من أول ذي القعدة. ويعتبر (عكاظ) في الجاهلية سوقًا لكل البضائع المادية والأدبية؛ فإضافة إلى البضائع المادية، كالتمر والسمن والعسل والملابس والإبل، فهو سوق للبضائع الأدبية؛ إذ يأتي الشعراء بقصائدهم لتُعرَض على محكّمين من كبار الشعراء، معظمهم أو كلهم من بني تميم.. وها هي الأعوام تدور، وفي كل عام يأتي هذا المحفل الحضاري القوي، الذي يوضح للأجيال التراث القديم، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله -، وإشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وتستمر فعالياته أيامًا عدة، بمشاركة نخبة من الأدباء والمثقفين الذين استعدوا لهذا الحدث الوطني الكبير في مدينة الطائف.
وكثفت فِرق العمل بهيئة السياحة والفِرق المساندة لها من الجهات الحكومية في الطائف جهودها لتجهيز فعاليات ومواقع السوق وبرامجه المختلفة، بدعم من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، واهتمام ومتابعة من رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني الأستاذ أحمد الخطيب.
وتتضمن جادة عكاظ عددًا من الفعاليات التراثية والثقافية، وفعاليات مسرح سوق عكاظ، والفعاليات المصاحبة في المناطق، والمطبخ السعودي والمأكولات، وما تتميز به، وكذلك عروض الخيل العربية، والخط العربي، وألوان عكاظ، وقوافل الإبل والخيل العربية.
ونؤكد أن سوق عكاظ ليس استظهارًا للماضي فحسب بل أخذ أحسن ما في الماضي، وإضافته إلى ما ينفع حاضرنا، ويفيد مستقبلنا، ويفيد أجيالنا، ونفيد ونطور به ثقافتنا في جميع مجالاتها؛ لتكون نافذة قوية لحضارة مميزة، تصف بها المملكة في مصاف الدول المتقدمة المحافظة على تراثها، والمطورة له.. نعم، ما أجمل أن يتعرف المرء على تراث آبائه وأجداده؛ لأن في ذلك تأصيلاً للثقافة لدى النشء؛ فالتراث بمفهومه البسيط هو خلاصة ما خلفته (ورثته) الأجيال السالفة للأجيال الحالية، ويعتبر - بحق - روح هوية الأمة الثقافية.
إن التراث هو الهوية الثقافية للأمة التي من دونها تضمحل وتتفكك داخليًّا.. وهذا هو سوق عكاظ تراثنا وحضارتنا؛ إذ يتم زرع الثقافة في نفوس النشء، وتعريفهم بتراثهم وتراث آبائهم وأجدادهم.. ما أجملها من صور معبرة، جاءت لتذكِّرنا بماضينا التليد!