د.فوزية أبو خالد
لعله الشاعر محمد الماغوط هو الذي كتب غزلاً في السفر مرة مما جاء فيه:
«حين كنت ممشوقاً كشجرة حور، مغرماً بالمغامرات كصبي غر, مفتوناً بالرحلات كطائر فينيق لم يكن أحد يدعوني لأمسية شعرية لا في نيس ولا باريس ولا في هونج كونج ولا بخارى ولا في موسكو ولا برلين ومع ذلك كان لدي من الأجنحة ومن حب الحرية ما لم يجعلني أستريح للحظة واحدة عن حلم الارتحال ولو من باب إغاظة الحراس، أما وقد صرت كقرصان مثخن بجروح الجرائم التي ارتكبها أو التي جرتها عليه حماقاته، فقد استدلت مهرجانات الشعر العالمية فجأة على عنواني. صارت كولمبيا تدعوني وغرناطة تدعوني وحتى سانت بربرا دعتني وكأن كل هذه البلاد والمدن التي تحمل أسماء تقطر أنوثة تريد إغاظتي مرتين مرة في شبابي بإهمالي ومرة في غروبي بإغوائي».
وبالتأكيد فإنه الشاعر محمود درويش هو الذي كتب رثاء للسفر كرثاء بن الريب لرحيله قال فيه:
يقول مسافر في الباص لا شيء يعجبني لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع على التلال..
تقول سيدة: أنا أيضاً لا شيء يعحبني دلّلت عاشقي على قبري فنام ولم يودعني.
يقول جندي: أنا أيضاً لا شيء يعجبني أحاصر دائماً شبحاً يحاصرني.
يقول السائق: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة فاستعدوا للنزول.
فيصرخون نريد ما بعد المحطة الأخيرة فانطلق.
أما أنا فأقول: أنزلني هنا، أنا مثلهم لا شيء يعجبني ولكني تعبتُ من السفر
في مهب السفر تعصف بي الأسئلة فأكتب ولكن ليس لمغازلة السفر كما فعل الماغوط وليس لرثاء البقاء كما فعل درويش ولكن لمساءلة النفس في أقدار السفر والاستقرار عندما يتشظّى الإنسان بينهما فلا يكون مستقراً ليتوق للسفر ولا يكون مسافراً ليحن للاستقرار. ومن هذه الأسئلة:
ماذا قد يعني أن تكون على سفر لأسابيع أو لبضعة أشهر أو لعام أو عدة أعوام؟!
هل يعني أنك في حالة دهشة دائمة ترى الأشياء بإحساس جديد وبأسئلة بريئة وكأنك لم تغادر الطفولة قط رغم ما تمر عبره من قيود الحدود من دولة لأخرى ورغم الغصة التي تعتصر حنجرتك من جهامة ضباط الجوازات وأسئلتهم الاستجوابية اللزجة. ألا يعد ذلك الموقف في المطارات كافياً ليلوّث أي هواء جديد بارد أو منعش ينتظرك خارج المطار.
هل يعني السفر أن نعيش عنفوان العمر باندفاعه وحماسه وبما يعترينا فيه من طيش الاكتشاف ونعمة الشجاعة؟
هل تعني حالة السفر اختبار ملكاتك في القدرة على تجريب أشكال أخرى لحياة لم تعهدها في العادات والتقاليد ومذاق الأطعمة ومواعيد الصحو والنوم والوجبات، وفي أساليب السلام واللبس والحركة وفي معايير القيم والنظافة والكفاية، وفي أنظمة المرور ووسائل المواصلات وخارطة الشوارع ورموز العناوين, وفي لغة التعبيرات العاطفية واتجاهات التفكير.
هل السفر هو العيش بين عالمين أو أكثر في لحظة واحدة. العالم الذي جئت منه والعالم الذي قدمت إليه بما يحتمل ذلك من الدخول في مأزق التضاد أو تمزّق الذات بين أنايين في آن. الأنا التي أنت عليها والأنا التي أنت فيها. هذا عدا عن تلك الأنا التي يمكن أن تؤول إليها أو تتحول نحوها بمحض إرادتك أو بفعل السحر الخفي للسفر الذي قد يغيّر مجرانا فلا نعود من كنا حتى بعد رحلة الإياب.
هل السفر قلق مؤقت من ترتيب أمور استقرارك بالموقع الجديد أو اطمئنان مؤقت لمتعة التغيير, على ما في الموقفين من قياس دقيق لنسبة الصبر في دمك مقابل نسبة التحدي.
هل يعني أن تكون على سفر أن تعيش شجن المقارنة بين غموض الغربة وبين وضوح الألفة خاصة حين يجر الشجن إلى مقارنة سؤال الحرية في الحالتين بما يصعب معه التفريق بين حرية قد تكون في الحالة الأولى أمامنا إلا أننا بفعل الشعور بالاغتراب قد لا نعرف كيف نراها وإن رأيناها فقد لا نعرف كيف نتعامل مع بذخها، وبين حرية قد تكون في الحالة الثانية غير موجودة أو غائبة إلا أننا بفعل الألفة وخبرات البيئة قد نستطيع تخيلها أو اختراعها.
* * * * * * * *
هناك أسئلة أخرى للسفر تعتمد على طبيعة السفر، فهناك سفر كسفر الشاعر أحمد شوقي للأندلس وكسفر الشاعر ناظم حكمة لموسكو أو كسفر الشاعر رسول حمزتوف خارج دغستان وهو سفر النفي الذاتي أو الخارج عن إرادة الذات وكلاهما سفر قسري، وهناك سفر معاشي كارتحال جبران خليل جبران لأمريكا وهناك سفر العلاج وهو أيضاً من أنواع السفر القهري والذي لا يخلو من رهاب السفر، وهناك سفر الفرار إلى الحرية كسفر نليسون مانديلا، وهناك السفر المعرفي كسفر طه حسين ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم لباريس مثلاً، وهذا أمتع أنواع السفر وهو السفر المندوب في الأثر النبوي اللهم صل على سيدنا محمد بطلب العلم ولو في الصين. وبما أننا في مطلع العام الهجري الجديد فلا بد من ذكر أقسى وأعظم سفر هو سفر الهجرة بالحق إحقاقاً لحق اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وصحبه المهاجرين في الهجرتين.
وليس أخيراً في شجن السفر ولكن تصطك أسئلة السفر بعظامي وتثير نشيجاً مكتوماً بين أضلعي عن حالات الحرمان من السفر وما قد تنسجه من أجنحة لأرواحنا أو ما قد تحيكه من شرائك لأحلامنا تجعل من يمرون بمضائق تلك التجربة يتطابقون بشكل جارح مع عنوان سيرة إدوارد سعيد الذاتية. «لست في المكانout place»
ويبقى السؤال الوجودي للسفر المتعلّق بوقتية العمر البشري كحالة سفر ليس إلا مهما طال بنا المقام أو المستقر بين فكي كمائن الأمكنة.. بما يجعل جميع الأسئلة أعلاه مجرد محاولة تأملية مترفة لأن نكيد للمجهول بأشواق المعرفة ولأن نزعج سلطات ما نعرف برغبة أن نتعرّف على ما لا نعرف.