د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
تطرقنا في مقالة سابقة إلى دور التواصل الاجتماعي في خدمة اللوبي، ونجده مناسبًا التعريف بمستوى آخر من التواصل، ألا وهو التواصل عبر الوفود الأهلية.
تمثل الوفود «الأهلية» أحد تجليّات المشاركة الشعبية، وقد تزايدت أهميتها حتى أنها أصبحت في أحوال كثيرة أقوى تأثيرًا من التواصل الاجتماعي. وقد تابع الملايين في أكثر عواصم العالم ما تنشره وتُذيعُه وتبثُّه وسائل الإعلام المختلفة من أخبار عن زيارات وفود الدبلوماسية الشعبية من بلد إلى آخر، وفي قلبها قوى المجتمع «الأهلي» بجمعياته المختلفة، حيث أصبحت «لغة» جديدة في الحوار، حيث يتم عقد لقاءات مع رموز الجاليات المقيمة، ومع أعضاء بارزين في الأحزاب والمجالس النيابية والبرلمانية والمسؤولين في الدول موضوع الزيارة، وذلك من قبل المجتمع الأهلي التي باتت موضع اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي أو ما يُسَمّى بـ «السوشيال ميديا».
وغالبا ما نرى أن زيارات وفود المجتمع الأهلي تسبق زيارات كبار المسؤولين من دولة ما إلى دولة أخرى، لكي تُمهّد للمباحثات، أو تُشارك في الاتفاق على القضايا والموضوعات، وحسم بعض بنودها، قبل أن يبحثها قادة الدولتين في الاجتماعات الرسمية، وهو ما يثير موضوع أهمية وفود منظمات وجمعيات المجتمع الأهلي، والأسلوب الأمثل للاستفادة من جهودها، وكذلك التعلم من تجارب الآخرين.
ويمكنُ القولُ بأن أسلوب الوفود الأهلية، أو الوفود غير الرسمية، يجدُ الكثير من الاهتمام بين العديد من الدول، التي باتت ترى فيه أسلوبًا فاعلاً، فيما يتعلق بمشاركة الدبلوماسية الأهلية للدبلوماسية الرسمية، ومساعدتها في حل الكثير من الموضوعات والقضايا. كذلك، يمكنُ القولُ إنه آخذ في الانتشار والاتساع بين الدول على الرغم من أن تأثيرات ونتائج زيارات الوفود «الشعبية» أو غير الرسمية لم تخضع في كثير من الأحوال، للتقييم والدراسة أو استخلاص لإيجابياتها والدروس التى تمخضت عنها، بحيث لا يكون المطلوب، هو مجرد إثبات الحضور لدى صانع القرار، بغض النظر عن النتائج.
إن الدعم السياسى لأي زيارة رسمية، هو أمر بالغ الأهمية، لا سيما إذا كانت من قبل المجتمع «الأهلي»، وهو ما يضفي على الرسالة المراد توجيهها مزيدًا من الحيادية والمصداقية، إلا أن التوقيت الذي تتم فيه زيارات الوفود غير الرسمية قبل زيارات الوفود الرسمية مباشرة، وبالتزامن معها، يعطي الانطباع بأنها جزء من الإعلام الرسمي للدولة، ويتم النظر إليها على أنها نوع من الدعاية التي تقوم بها الدولة لتوجهاتها، الأمر الذى يُقلّلُ كثيرًا من أهميتها، ويؤثر في مصداقيتها، وقد يفقدها الغرض الذي تستهدفه وتسعى إلى تحقيقه. ومن ناحية أخرى، فإن الهدف لا يتحقق بمجرد الحضور، وتكرار نفس الكلمات التي يقولها المسؤولون، وبما يعزز الانطباع أن هذا الوفد، ما جاء إلا للتعبير عن وجهة النظر الرسمية.
لا يختلف أحد على أهمية اتفاق وجهات النظر بين الوفود الرسمية والوفود الشعبية، ذلك أن اتفاق الرؤية أو الهدف مع الدولة أمر لا يعيب الوفود «الشعبية»، ولكن ما يعيب خطاب وفود المجتمع الأهلي، هو افتقادها للخطاب السليم، فى مخاطبة الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.
ويمكن القولُ، بأن لكل دولة مصالح، تعكسها لغة وخطاب «رسمي»، يتم الإعلان عنه في الاجتماعات الرسمية، ويقوم على تبادل المصالح والمنافع المشتركة، فى حين أن لغة الوفود الشعبية أو الوفود غير الرسمية فى الجلسات المفتوحة، تقوم على القيم المشتركة، وسد الفجوة بين الثقافات والحضارات والعلاقات.
وقد رأينا وتابعنا، كما رأى وتابعَ الكثير من الباحثين، أداء اللوبى الإسرائيلي. وعلى عكس ما يعتقده أكثرُ الذين يتصدون للحديث في هذا الموضوع، فإن اللوبى الإسرائيلي لم يعتمد بشكل رئيسي على الموارد المالية في أدائه، ولم يعتمد أيضًا على ما يستطيع أن يحشده من أصوات في دوائر وأوساط معيّنة، بقدر ما اعتمد ولا يزال، على وسائل أخرى، أهمها التواصل مع وسائل الإعلام الأمريكية، ومراكز الأبحاث التي يُحسنُ الحديث معها ويُجيد مخاطبَتَها.
أما أبرز ما حرص اللوبي الإسرائيلي على أن يُشيعَه في الأوساط الأمريكية، وفي الرأي العام الأمريكي، وكان غالبًا الموضوع الأساسي في «خطابه»، والمضمون الأهم في «رسالته»، فقد كان ما تُردّده دوائر هذا الـ»اللوبي» عن الواجب الأخلاقي للدفاع عن إسرائيل باعتبارها دولة «ديمقراطية».
ولا بد هنا أن نطرح سؤالاً بالغَ الأهمية، حول «الرسالة» أو مجموعة القيم التي يجب «علينا» أن نتوجّه بها إلى الرأي العام الأمريكي، عندما نريد أن نخاطبَه، وعندما نتجّه إلى مخاطبة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، أو الحديث مع الغرب بشكل عام.
هل يكفي الحديث عن خطر الإرهاب، وأهمية مكافحة التنظيمات المتطرفة، وضرورة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، أو أننا نهتم بإعادة تقديم الإسلام الوسطي، وشرح قيم الإسلام السمحة لمجتمع أغلبه «علماني» النزعة؟ هل نكتفى بذلك؟
الإجابة ببساطة شديدة، إن دوائر صنع القرار فى الغرب، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، تعرف ذلك، ولا تختلف مع أي من الدول الإسلامية والعربية عليه، ولكن ما تريد أن تسمعه دولُ الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، وما تريد أن تعرفه، هو النموذج الذي يمكنُ أن يحملَ من القواسم المشتركة، ما يشعرون معه، بأننا «شركاؤهم» وأنهم «شركاؤنا»، وهو ما يعطي العلاقة أبعادها «الإستراتيجية»، التي تجعلهم أكثر حرصًا على تنمية العلاقة وتطويرها.
من هنا، فإن على وفود المجتمع الأهلي، وهي جزء مهم لا يتجزأ من الوفود الرسمية، مهمة أكبر وأهم من مجرد الحديث عن مكافحة الإرهاب مع بعض المسؤولين أثناء زيارة رسمية، خاصة فى ظل وجود رؤى متباينة حول أقوى سبل التعامل مع ملف الإرهاب.
إن المملكة في حاجة شديدة إلى طرح «رؤية سعودية» في مجال تفكيك التعقيدات الإقليمية، وحل مشكلات منطقة الشرق الأوسط، كما أن عليها مسؤولية مهمة، في تقديم رؤية شاملة لأسلوب معالجة التصدع، الذي يعيشه العالم العربي، تأكيدًا لموقعها كدولة محورية في الإقليم، وترسيخًا لدورها في قيادة عالمها العربي، وكشريك إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، ورقما مهمًا في المعادلة الدولية.
إننا في المملكة، في حاجة ملحة، إلى طرح وجهة نظر واضحة، وتقديم الرؤية السعودية لمستقبل الإقليم، ومستقبل المنطقة العربية، وأن تقوم بهذه المهمة وفود غير رسمية، من الخبراء وأصحاب الرأي، تعرف كيف تخاطب مختلف دوائر صنع القرار، ومراكز الفكر والأبحاث، ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة والغرب، بشكل دائم ومستمر، وليس بشكل موسمي، أو مؤقّت، أو على هامش زيارة رسمية.