كثير من الأحيان في الحوادث المهنية الكبرى التي تقع وتكون ذات أثر كبير من حيث الإصابات في الأرواح والممتلكات ستجد في تقارير التحقيق الخاصة بها تنسب الأخطاء فيها إلى الأفراد وعدم تقيدهم بالإجراءات والعمليات المطلوب تمامها قبل إجراء المهمة وأحيانًا أخرى تنسب الأخطاء إلى الأعطال الفنية غير المتوقعة أو الخلل الفني الموجود بالمعدات.
وما زالت هذه الصياغة تعيد نفسها بين الفينة والأخرى لهذه الحوادث المتكررة التي تحكي تلك الثقافة البائسة في محاولة إيجاد كبش الفداء الذي تسبب في هذا الحادث أو ذاك وكأن هذا الحادث لا يوجد له تفسير إلا من خلال الأفراد أو العيوب الفنية.
وهذه الثقافة ثقافة عالمية ما زالت مستخدمة في أجواء التحقيقات التي جعلت من أصحاب النجاعة في الاختصاص في علوم السلامة وملحقاتها تسليط الضوء بشكل أكبر من حيث التحقيق والتصويب والتفكيك في طريقة النظر الأكثر عمقًا لهذه الحوادث وملاحقة الأسباب الجذرية الفعلية لهذه لحوادث الكبرى.
في التقارير التحقيقية الأولية للحوادث الكبرى كحادثة تشيرنوبل (Chernobyl) في عام 1986 ظهرت ثقافة كبش الفداء من خلال إيعاز أسباب الحادث الجذرية لانتهاكات في الإجراءات التشغيلية التي قام بها الفريق التشغيلي آنذاك وبعدها بست سنوات في عام 1992 ومن خلال الفريق الدولي المتخصص في سلامة المنشآت النووية فسرت نتائج الحادث من خلال العيوب التي كانت في ثقافة المنظمة وما تحتويه من قيم وسلوكيات أدت إلى مثل هذا الحادث وتعبر عن نقص وعيب واضح في ثقافة سلامة المنظمة.
وكذلك في نفس العام 1986 من خلال حادث مكوك الفضاء تشالنجر (Challenger) الذي أدى إلى مقتل رواد الفضاء السبعة والذي ورد في تقاريره الأولوية أن السبب وراء هذا الحادث هو فشل إحدى الحلقات المعززة الموجودة في قاعدة الصواريخ الصلبة رغم وجود تحذيرات من قبل قسم التوريد بأن هناك تغيرًا غير طبيعي في درجات الحرارة مما يرجح فشل عملية الإطلاق للصاروخ ولم تؤخذ هذه الملاحظات بعين الاعتبار من قبل المسؤولين، وبعد عدة سنوات من إعادة تنظيم العمليات في وكالة ناسا أظهرت التقارير الأسباب الجذرية لهذا الحادث تعود إلى خلل في ثقافة المنظمة من خلال رغبة حيازة المزايا التنافسية بين فرق البحث وفرق التطوير وكذلك ضعف تدفق المعلومات فيما بينهم فضلا عن مستوى الثقة غير الفعال.
وبعدها كثير من الحوادث الكبرى كحادثة حريق محطة مترو (King)s Cross) في عام 1987 وحادثة أوبرلينجن (Uberlingen) تصادم الطائرات في الجو في عام 2002 وحادثة الانفجار في مصفاة تكساس (Texas City accident) في عام 2005 وغيرها الكثير من الحوادث الكبرى التي ذهبت تقاريرها الأولية تكسوها ثقافة كبش الفداء وبعد فترة من الزمن والتحقق والتصويب تعاد صياغة تلك التقارير وربطها بالأسباب المتعلقة بثقافة المنظمة وما تحتويه من قيم وسلوكيات كأسباب جذرية لهذه الحوادث.
ومن خلال التحليلات العميقة لمثل هذه الحوادث المتعلقة بثقافة المنظومة أظهرت كثير هذه التقارير بعض الأمثلة للأسباب الجذرية مثل:
- عمليات التواصل الضعيفة في المنظمة التي تجعل من عمليات تدفق المعلومات عمليات بطيئة وفي بعض الأحيان تقود إلى استجابات بطيئة للأحداث.
- عمليات تقليل الميزانيات غير الموضوعية فيما يتعلق بسلامة المنشآت والأفراد.
- الثقافة الدارجة في المنظومات العملية التي تجعل من المقاولين في حالة صمت تجاه السلامة ومؤشراتها وكأنهم خارج مسؤولية المنظمة.
- عدم إنفاق وقت أكبر لتحليل المخاطر من قبل مدراء التشغيل.
- التركيز من قبل الإدارات العليا على الإنتاج وما يتعلق به دون إجراءات السلامة في المنظمة.
- اهتمام الإدارات العليا بمؤشرات الأداء المتعلقة بأعداد الحوادث دون الاهتمام بالمؤشرات الاستباقية التي قد تنبئ بوقوع الحوادث مستقبلا.
وكل هذه الأسباب الجذرية المتعلقة بثقافة المنظمة تعير الانتباه بأن الحوادث الكبرى ومن خلال التطبيقات المتعددة والمنتشرة حول العالم لا يمكن ردها لثقافة كبش الفداء البائسة من خلال الأفراد وإنما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المنظومة التي تلزم الإدارات العليا بوضعها على رأس أجندة الأهميات الإستراتيجية والإدارية لقيادة تلك المنظومات والكيانات.