محمد الشريف
كمدخل تعريفي لا بد منه لمقالتي هذه، تقع السودة في منطقة عسير بالقرب من مدينة أبها، وترتفع عن سطح البحر بأكثر من (3000) متر، وتكسو جبالها أشجار العرعر مكونة غابات طبيعية كثيفة وخلابة. وتطل السودة على إقليم تهامة ذي المناظر الرائعة للأغوار والأودية والقرى التي تمتد على مدى النظر، سواء نظرت إليها مباشرة بالعين، أو من خلال المناظير المثبتة على حواف الجبال.
وقد أحسنت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بتنظيم موسم السودة هذا العام بهدف إبراز ما تتمتع به المنطقة من موقع وطبيعة وأجواء رائعة، فضلاً عما تملكه من تراث وثقافة عريقة، ظلت ولا تزال مصدر اعتزاز لأهلها. وقد كنت أنا وابني الذي رافقني في زيارة للمنطقة من المحظوظين الذين أُتيحت لهم فرصة الزيارة خلال الموسم الذي أُقيم خلال شهر أغسطس، والتمتع بما حواه من فعاليات وأنشطة وأجواء، قلّ أن تجتمع في مكان واحد. فمن حيث الفعاليات فقد تنوعت بين الأنشطة الرياضية والمغامرات، والعروض الفنية والتراثية والثقافية، ويأتي في الأهمية منها ملتقى الزوار والفعاليات المخصصة للأطفال، والرياضات الجبلية، والطيران المظلي، ورياضات الحبال، وفعاليات معهد مسك، ومهرجان رجال الطيب، والعروض السينمائية المفتوحة، والمطاعم المحلية والعالمية، والجولات السياحية.
وقد كان ذهابنا إلى الموسم ضمن برنامج سياحي منظم وميسّر من حيث التكلفة لمدة يومين كاملين، يشمل الإقامة والتنقلات والوجبات، وحضور الفعاليات، وقبل ذلك كله يشمل الابتسامات وعبارات الترحيب التي لا تتوقف على وجوه المنظمين ومقدمي الخدمة طيلة الزيارة، وكلهم من شبان وشابات الوطن؛ وهو ما كان أحد مصادر الارتياح والسرور بالنسبة لنا. أما الإقامة فقد كان هناك خيارات متعددة، فضّلنا منها الإقامة في أحد الكرافانات التي تم اختيار أماكن وقوفها بعناية بين الأشجار الكثيفة، وهو عبارة عن وحدة سكنية جميلة وجديدة، ويحتوي الواحد منها على المرافق اللازمة للسكن والراحة، مثل غرفة النوم والجلوس وطاولة الطعام، فضلاً عن بقية المرافق المهمة والتكميلية، كدورة المياه ومطبخ صغير وثلاجة وأجهزة تكييف وتدفئة. ومع أن الوقت كان في حموة الصيف في شهر أغسطس في أكثر مناطق المملكة إلا أنك تشعر في ذلك المكان وكأنك في فصل الشتاء، بدليل أنني لم أستطع الاستغناء عن تشغيل جهاز التدفئة لحظة واحدة طيلة الإقامة. وهنا يأتي دور الحديث عن جو المنطقة وطقسها المتميز بكل معاني الروعة والجمال والصفاء؛ إذ قلما تختلف درجة الحرارة عن معدل يتراوح بين 15 و20 درجة مئوية؛ وهو ما يجبرك على استخدام ملابسك الشتوية معظم الوقت. أما العامل الآخر المهم الذي يزيد الأجواء روعة وبهجة فهو غيث الرحمن الذي يتنزل على المنطقة بشكل يومي في توقيت رائع، فبينما تشرق الشمس صافية في بداية النهار؛ لكي تزيد زرقة السماء صفاء ونضارة، تبدأ السحب في التساقي والالتحام ابتداء من وقت الظهيرة؛ لكي تلف المكان برداء ضبابي جميل، في عناق متلازم مع الأشجار والوجنات، وكأني بالشاعر خالد الفيصل صورها أدق تصوير حينما قال:
ما حلا مسّ السحاب لوجنتك
والندى نشوان من ريحانها
وبعد تلاحم السحب يبدأ الرعد في التسبيح بحمد الله كإيذان بانهمار الأمطار الغزيرة مكونة أجواء تخلب اللب في تمازج عجيب بين السحاب والضباب والمطر والشجر، وصدى أصوات خرير الماء في الجداول والشلالات المحيطة بالمكان. وبعد أن يتوقف المطر تبدأ السحب في الانقشاع مخلفة ما أمرها الله بإنزاله من الغيث لعباده. كل ذلك في توقيت يكاد يكون متلازمًا ومنتظمًا.. بيد أنني أستطيع القول إن يوم الجمعة 22-12-1440هـ كان يومًا استثنائيًّا؛ إذ لم يتوقف المطر طيلة النهار وشطرًا من الليل في تراوح بديع بين الديمة والهتان والرذاذ، وكأن الشاعر بدر بن عبد المحسن يرقب المكان والزمان حين قال:
قلت المطر، قالت لي اليوم ديمة
لا به رعد، لا برق، ما غير هتان
ومما يزيد الهدوء، وروعة المكان، وسهولة الانتقال، أن السيارات قد خُصصت لها مواقف خارج منطقة الموسم؛ لكي يتم التنقل في جنباته وأرجائه بسهولة، إما تمشية أو عبر سيارات
(القولف) الكهربائية الموجودة دائمًا، التي يقودها شبان وشابات لا تفارق البسمة محياهم. وبما أن عرض الرحلة يشمل الطعام فإنه يتوافر في منطقة الموسم مختلف أنواع المطاعم من عالمية ووطنية وشعبية، تقدم مختلف صنوف الطعام والمشروبات، ومن أهم تلك المطاعم:
(مزرعة الشموخ) التي يمكنك أن تختارها مكانًا لتناول الغداء أو العشاء أو حتى الإفطار. ورغم أنه فاتني مشاهدتها بسبب ازدحام برنامج الرحلة بالفعاليات إلا أن ما نُقل لي عنها يبعث على الاعتزاز؛ إذ إنها تدار من قِبل عائلة سعودية واحدة مكونة من أخوين وزوجتيهما وأبنائهما وبعض بنات عمومتهما؛ فهم من يعمل ويطهو ويستقبل ويخدم، في بادرة تستحق الثناء والإشادة، حري بها أن تحفز كثيرًا من العائلات على محاكاة تلك التجربة. ولا أنسى ضمن الحديث عن المطاعم والجلسات المفتوحة أن أذكر أنك لن تستطيع الاستمتاع في جلستك ما لم يكن بجوارك جهاز تدفئة أو بطانية من التي يوفرها أصحاب المطاعم لروادها خوفًا عليهم من لسعات البرد.
وحتى لا يتساءل أحد القراء الأعزاء عن ماهية (مهرجان رجال الطيب) الذي ذكرتُ في بداية حديثي فإنه إحدى فعاليات الموسم. وأقول بعد زيارتي محافظة رجال ألمع، والتمتع بما فيها من جمال، إن المقصود بها هو قرية رجال ألمع التراثية الرائعة، القريبة من منطقة السودة، التي يمتد تاريخها إلى (900) سنة تقريبًا، وكانت تشكل مركزًا تجاريًّا مهمًّا. ومما تتميز به وجود المباني العالية التي يبلغ ارتفاعها أكثر من ستة طوابق، كلها مشيدة من الحجارة الطبيعية والأخشاب والطين. ويضم أشهر تلك المباني متحفًا تاريخيًّا تراثيًّا، يسمى (متحف رجال ألمع التاريخي) الذي يشد الانتباه بما يحويه من مقتنيات تكاد تنطق، معبرة عن تاريخ الأجيال التي تعاقبت عليها، وتركت آثارها ومقتنياتها ومخطوطاتها وأسلحتها وأدواتها، متمثلة في أكثر من ألفَي قطعة أثرية. أما مهرجانها فهو عبارة عن عروض فنية وتراثية، تشمل الأناشيد والأهازيج الوطنية، والرقصات الشعبية التي عُرف بها أهل القرية وتميزوا بها، ومن ثم لم أستغرب عندما عرفت أن القرية قد حصلت على المركز الأول في جائزة المدن العربية فرع التراث المعماري في العام 2017م. أما جوها العام وطقسها فيعد معتدلاً نسبة إلى ما جاورها كمنطقة أبها والسودة المعروفة بجوها البارد. ومما يشد الانتباه في مجال الحديث عن رجال ألمع هو عقبة (الصماء) أو عقبة الثعبان أو الموت كما كانت تسمى قبل إنشاء الطريق الذي يربطها بمدينة أبها، الذي يتنوع التواء وانحدارًا شديدًا، غير أنه يتميز بالسعة ووسائل السلامة والأمان والإنارة الجيدة. وبينما تقع السودة على ارتفاع أكثر من (3000) متر، ودرجة حرارة معدلها في حدود (17) درجة مئوية، تجد نفسك في غضون دقائق في قرية الرجال التي تكون معدل درجة الحرارة فيها في حدود (30) درجة مئوية. إنه تنوع عجيب، يبعث على التمتع بما وهبه الله لتلك المناطق من جمال في كل شيء.
بقي أن أختم بأنه يمنع في غابات السودة إقامة المخيمات وإشعال النيران للطبخ أو غيره؛ لتبقى رائعة نظيفة كما خلقها الله؛ وهو ما جذب انتباهي في هذه الزيارة بعد أن كنت زرتها في زمن سابق، وألفيتها تفتقر إلى النظافة عندما كان مسموحًا فيها بالإقامة في الخيام وما ينتج من ذلك من تشويه للمكان. ولا شك أن لجهود الجهات الحكومية، ومنها أمانة منطقة عسير، دورًا كبيرًا فيما هي عليه من نقاء وروعة.
بقيت كلمة، هي أن تنظيم موسم السودة قد أضفى مزيدًا من التعريف بالمنطقة، وما حباها الله به من جمال.. والأمل أن يستمر هذا النهج للفت الأنظار إليها، ليس في المملكة فحسب، بل في منطقة الخليج العربي والبلدان العربية المجاورة.
والله من وراء القصد.