د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما أخذت في تصفح تطبيق الواتس آب وجدت خليطا من أشياء كثيرة، وربما متناقضة، جُلها غث، وفيها القليل من السمين. ومر هذا على ذاكرتي مرور الكرام.
بعد هذا كله استوقفني مقطع إنساني رائع، لا يمكن لدى من له قلب يحمل مشاعر إلا ويقف عنده متدبرًا مستلهمًا قيمًا ومثلاً، قلما نجدها في هذا العصر. لقد جلس رجل يبلغ السادسة والتسعين من عمره أمام القاضي، وسأله القاضي إن كان يعلم سبب مجيئه إلى المحكمة، وذكر أن قضيته تتمثل في تجاوزه السرعة عند مبنى إحدى المدارس، فرد عليه الرجل المسن صاحب الستة والتسعين عامًا بأنه قد دأب دائمًا على السير متمهلا غير متجاوز السرعة المحددة، أما في ذلك اليوم فقد كان في طريقه إلى المستشفى، ومعه ابنه البالغ الثالثة والستين، المقعد والمصاب بالسرطان، وقد اعتاد على أخذه كل أسبوعين إلى مركز تحليل الدم، وإعادته مرة أخرى. وقد تأثر القاضي بفعل ذلك الرجل الذي يرعى أحد أفراد عائلته وهو في ذلك العمر المتقدم. وقد أسقط القاضي عن المسن القضية، كما أن القاضي التفت إلى ابنه هو، الذي كان حاضرًا في الجلسة، وقال له ما معناه إن هذا الرجل ضرب لي مثلاً من الصعب عليّ أن أفعل مثله لو طال بنا الزمن، وجار علينا بأتراحه.
وقفت مليًّا عند فعل ذلك المسن، وكيف ضرب لنا مثلاً فعليًّا بحب الأب لابنه ووفائه له، وحرصه عليه، وهو في هذا العمر. يا له من نموذج حقيقي للحب والإنسانية والعطف الفعلي والتطبيقي. وجميعنا يحب ولده، ويشفق عليه، ويسعى في توفير سبل الراحة له، لكن من المؤكد أن التميّز في الفعل يجعل الإنسان يرى أنموذجًا تجاوز حد العاطفة القلبية.
تذكرت عطف يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف، وحزنه عليه حتى ابيضت عيناه، وعدم يأسه، وثقته بالله حتى جمعه الله به. تذكرت حرصه على أبنائه ألا يدخلوا من باب واحد، بل من أبواب متفرقة، بغض النظر عن المكان الذي ذهب إليه يوسف، هل هو مصر المعروفة باسمها الآن، أم إنه مصر من الأمصار، أي أحد البلدان؛ لأن مصر في ذلك الوقت أي قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة تسمى أرض الكنانة، وإن كان قد ذهب إلى أرض الكنانة فهل هو في زمن الهكسوس أم غيرهم؟ وكم عدد من عاصرهم من الملوك؟ لأنه قد قدم إلى أرض الكنانة وعمره ثلاثة عشر عامًا، وكان وزيرًا وعمره ثلاثون عامًا، واستمر حتى قدم إليه يعقوب عليه السلام وأهله وعمره سبعون عامًا، واستمر في عمله حتى وفاته كما تقول التوراة. والله أعلم.
تذكرت أم موسى عليه السلام التي وضعته في التابوت، وأراد الله أن يعاد إليها لترضعه حليبًا، وحنانًا وعطفًا، ويعيش أربعين عامًا في مصر؛ ليدعو فرعون إلى سبل الرشاد، ثم يعيش بعدها أربعين عامًا في التيه، وبعد ذلك أربعين عامًا في الأردن دون أن يعبر النهر، ويعبره يوشع بن نون، كما تقول التوراة. والله أعلم.
نوح عليه السلام عند حلول الفيضان هداه الله إلى أن أخذ معه أهله وولده وبعضًا من الناس، ومن كل زوجين اثنين. أما تفسير كل زوجين اثنين فقد اختُلف فيه. وركب السفينة، ورست على الجودي، فكانت بداية جديدة لتلك المجموعات البشرية في بلاد الرافدين، أو هضبة الأناضول، أو في البلاد التي كان يعيش فيها نوح عليه السلام.
في الأساطير السومرية والآكدية والبابلية والأشورية بعض من القصص الرمزية التي تجسد ذلك الحب والعاطفة الأبوية، وهي أعظم حب يمتلكه الإنسان؛ لأنه جِبلة إنسانية خالدة. أما حب الزوجة أو الأصدقاء فهذا الحب قد يتغير بسبب أو لآخر؛ لهذا قد يحدث الجفاء، وأحيانًا الطلاق، غير أن ذلك لا يمكن حدوثه بين الأب أو الأم أو أبنائهما؛ فهو حب من نوع آخر، خال من المصلحة، أو المتعة، أو حتى العشق والهيام، بل هو حب يتخلله الأمل بأن ترى الأبناء في عيش رغيد، بعيدين عن الأذى، والسمعة غير اللائقة.
إن الأب والأم يريان أبناءهما شموعًا لا تنطفئ شعلتها، ويريدانها أن تستمر كذلك حتى يفرق الموت بينهم.
في هذه الحياة، ولدى كل منا نحن المعاصرين قصص حب صادق وتضحيات، وفعل لا يمكن وصفه، يمنحه الوالدان لأبنائهما.
إن كان الوفاء والحب الصادق يكمنان في العطاء المادي فإن الحب الأبوي يفيض عطاء من خلال العاطفة الجياشة، والحنان، والرأفة، التي لا يشوبها شائبة.. إنه عطاء حب لا ينقطع.
يقول معروف الرصافي في حنان الأم الحانية:
فيا صدر الفتاة رحبت
فأنت مقر أسنى العاطفات
إذا استند الوليد عليك لاحت
تصاوير الحنان مصورات