د. خيرية السقاف
على كتفيه أكثر من تسعين عاما، ولا يزال مشغول بصلاته، وتلاوته، والسؤال عن أحفاده واحدا واحدا..
مشغول بسجادته لا يطأ نسيجها سواه، وإن كان حين يصلي لا يلمسها من جسده الواهن سوى طرفا قدميه..
هذا «البركة» الذي في بيتهم يصغي إليك حين تتجاذب الحديث جواره مع أحد، فإذا به يهدر من خزين زوادته، كلاما يبهرك بحكمته،
كثيرا ما يسألك أن تشرح له تفاصيل الأخبار خارج أبواب البيت، فيقطع نشرتك الإخبارية بكفين ترتعشان تتجهان للسماء، وشفتاه تتمتمان بالدعاء، عند أي خبر حزين يبكي وهو يدعو، وعند أي خبر مفرح يبتسم عن شفتين هزيلتين مكتنزتين بكلمات تخرج من فمه بخير يملأ صدر السامع اطمئنانا، وسلاما، وبسلام يملأ الصدر..
هذا «البركة» المشاعة في منزله، هو الأمان الراسخ في جنباته، وهو بصيص النور لمن يذهب عنه راضيا مطمئنا، ويعود إليه محملا بهموم الحياة، والمعاش، ومحكات البشر، فيغتسل بكلماته من كل أثقاله، وهمومه، وتعبه..
أمس راقبهم يناقشون بعضهم في أمر، يحركون أيديهم نحو الجهة الشرقية من الاتجاهات، عن بعد وهم يجلسون إلى نشرة الأخبار في الحجرة المقابلة لحجرته، أشار إلى أحدهم أن: تعال إلي، وبهدوئه، وسكينته، وبصوته المتهدج سأل بكفه، وأصابعه ما الأمر؟، ونظرات عينيه الغائرتين تغوصان في عيني من يقف أمامه، قل لي الحقيقة، أهناك ما يزعجكم؟،
إذ كل همومهم تلوب في صدره، تشكل خريطة مشاعره، فهو منجم صامت لكنه ثر بكنوزه، أخبره الحفيد الواقف أمامه عن بعض أحداث، ومنها ما حدث في «بقيق»، وطمأنه بأن كل شيء على ما يرام، غير أنه أصر أن يعرف التفاصيل، فأكد له الحفيد بأن لا شيء، وبأنه وإخوته نتبادل الرأي فيما تشاهده من نقاشنا ولا غير، فما الذي قاله حينئذ هذا المسن؟..
رفع كفيه نحو السماء، تمتم ببضع دعوات، ثم توجه لحفيده وأشار إليه أن يفعل، أن يرفع كفيه إلى السماء ويدعو، ثم طلب إليه أن يصلي هو وجميع أفراد الأسرة، وأضاف: «ما بالكم تهدرون الوقت في الكلام؟، إن عتاد المرء ليس السلاح وحده، إنه الصلاة والدعاء، وختم قوله: أنتم تعرفون صلاة الخسوف، والكسوف، والاستسقاء، وصلاة الرسول عليه الصلاة والسلام عندما يحزب أمر يتجه إلى الله وحده الحافظ، المجيب، الحسيب، والوكيل، فصلوا، والله خير الحافظين»،
في اليوم التالي أخذ يردد طلبه لكل فرد في الأسرة يمر به قبل خروجه، أو عند إيابه: «الله الله صلوا، ادعو، كونوا بابا للنصر، عندما لا تكونوا جنودًا في الميدان»..
يا الله، كم نفتقد هذا المسلك في واقعنا؟!..