عبدالوهاب الفايز
إذا تحقق تنفيذ الأمر السامي بقصر عقود الاستشارات على الشركات الاستشارية والكفاءات الإدارية والاقتصادية المحلية، وتم فعلاً الحد من هيمنة شركات أجنبية محدودة لهذا النشاط المهم، هنا سنكون أمام فرصة لبناء المؤسسات الفكرية والبحثية والاستشارية المحترفة الداعمة للقرار الوطني، سواء في الشأن المحلي أو الخارجي. فحجم إنفاقنا على الاستشارات يقدم الفرصة الذهبية لبناء صناعة لإنتاج الفكر الوطني النابع من احتياجاتنا ومصالحنا.
في تصوري، بلادنا لم تكن في حاجة ماسة للمؤسسات الفكرية كما هي حاجتها الآن. نحن في حقبة تاريخية للتحول الكبير في الفكر والسلوك والفعل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونواجه بيئة عدوانية خارجية تستهدف وجودنا، بالذات (المشروعين الفارسي والصهيوني). وفي حقبة التحول الكبير الجاري الآن في إدارة المصالح والصراعات الدولية العظمى، يتعاظم دور مراكز الدراسات والأبحاث وصنع السياسات، ومؤسسات الإعلام والفكر المحترفة.
فِي مثل هذه البيئة تتعاظم حاجتنا لمؤسسات توجد الآلية لاستثمار فكر وخبرة الكوادر الوطنية، من مستشارين وباحثين، وبالذات رجال الدولة الذين خدموا لسنوات طويلة.
هنا نحن نتحدث عن صناعة (إنتاج وتحليل) الفكر، وهذه تقوم على بنية منظومة متكاملة يجب أن ترعاها المؤسسات والصناديق السيادية في الدولة، وتقوم على جهد الجامعات ومؤسسات وشركات القطاع الخاص الكبرى، ومؤسسات المجتمع المدني، والمنشآت الحكومية. بناء صناعة الدراسات والاستشارات التي نتطلع إليها بيدنا كل المقومات التي تطلقها، وكنا نتمنى أن نراها ضمن (البرامج الأساسية) لتحقيق (رؤية المملكة 2030)، فالبرامج المطروحة لتحقيق الرؤية تحتاج إلى جهد بحثي وفكري وإعلامي يعادل ويوازي حجم برامجها ومبادراتها.
الرؤية مشروع فكري يستهدف نقل المملكة إلى حقبة استثمار كل الأصول الوطنية، في مقدمتها الاستقرار السياسي والأمني والسمعة العالمية الإيجابية، وكذلك أصول الثروات البشرية والطبيعية، ومقومات الجغرافيا السياسية والاقتصادية. هذه الأصول الوطنية قوة حقيقية للدولة وتجعلنا قادرين على التحول من: (استهلاك الثروة، إلى إنتاج الثروة).
في أدبيات إدارة التطوير والتغيير الكبير للمجتمعات والدول، من الضروري وجود (جهد فكري منظم منسجم) يدعم عملية التغيير، وتكون أدواته وتمويله وتوجيهه متنوعة ومتعددة تبدأ بمراكز الدراسات وشركات الاستشارات والمؤسسات المنتجة للمعرفة في الجامعات، ومؤسسات الإعلام واستطلاعات الرأي، ومؤسسات وجمعيات المجتمع المدني.
نحن في المملكة لدينا مشروع كبير للتحول الإيجابي لمجتمعنا، وأيضًا هذا المشروع يستهدف بناء تحالفات وشراكات إستراتيجية مع الأشقاء والأصدقاء من الدول والتكتلات في العالم. إنه مشروع بناء وسلام.. هذا المشروع هو اللاحق والأجدر أن تدعمه جهود وإنتاج مؤسسات الفكر.
مع الأسف، إذا بحثنا عن حالة دراسية، نجد أن أفضل من استثمر في بناء مشروع فكري هو نظام الخميني عندما طرح (مشروع ولاية الفقيه) وتصدير الثورة. لقد أسس منظومة مؤسسات فكرية متكاملة لتسويق عقيدة وفكر المشروع التخريبي للعالم العربي. ضُخت أموال طائلة لشراء تعاطف مراكز الدراسات في أوروبا وأمريكا، وكذلك سعى نظام الخميني لإنشاء وتمويل برامج للدراسات الشرقية.
هذا الإنفاق ثماره نراها بقوة الآن في أطروحات ومشاركات المؤسسات الفكرية الغربية التي تغذي وسائل الإعلام الرئيسة برؤية داعمة للموقف الإيراني من الصراع في سوريا واليمن، حيث تطرح البعد الإنساني المترتب على الحرب، مع تجاهل متعمد لمصدر هذه المشكلات، وهو المشروع الإيراني في المنطقة.
نحن في حقبة جديدة سوف تشهد تطور أدوات (الجيل الخامس من الحروب)، وهي الحروب الفكرية والثقافية. هذه أخطر وأكثر تدميرًا وتتم بأقل تكلفة، وهذا ما برع فيه المشروعان الصهيوني والفارسي في المنطقة، ونتائجه المدمرة جعلت إسرائيل وإيران الدولتين المتنمرتين، فإسرائيل تستعد لقطف ثمار التطبيع وتوسيع المستعمرات في بقية الأراضي المحتلة، وإيران مستمرة في مشروع التخريب، بغطاء غربي واضح.
سعادة النخبة في الأمر السامي القاضي بقصر عقود الاستشارات على بيوت الخبرة المحلية لقي أصداء إيجابية، وهذا أحدها:
(نحن، في سبيل ما ذهبت إليه أخي عبدالوهاب، بأمس الحاجة إلى تأسيس مراكز تفكير (Think Tanks)، محلية في كل منطقة إدارية وفي الحكومة المركزية.. لأنه توجد لدينا أجيال من حملة الشهادات في مختلف التخصصات من كثير من جامعات العالم، وأهمها الولايات المتحدة، ممن اكتسبوا خبرات مهنية في القطاعين العام والخاص، وقد تقاعدوا الآن.. ولا يزال لديهم مخزون معرفي متراكم في كل مجالات الحياة لم يتم استغلاله بعد!!، مع العلم أن المملكة لم ينافسها بعدد إرسال المبتعثين للجامعات العالمية بالسابق والحاضر إلا الصين والهند وهما من الدول الصاعدة بقوة الآن.
شكرًا لك أخي عبدالوهاب على التطرق إلى هذا الموضوع الحيوي والملح في هذه المرحلة خاصة بالتزامن مع صدور الأمر الملكي الكريم الخاص بالحد من الاستشارات الأجنبية).