د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لن يكون الحديث حول شجاعة عنترة، فهذا أمر معلوم ومشهور، لكن ما نرمي إليه أن الشجاعة لا تعني القوة البدنية فحسب، لكنها الحكمة وقوة القلب، والمهارة، فعندما قابل عنترة ثوراً، في طريق مسدود، أخذ عنترة يرجع إلى الخلف ووجهه إلى الثور، حتى استطاع النجاة، فسأله من رآه قائلاً ما معناه: أتخاف من ثور وأنت عنترة؟! فقال قولته المشهورة التي أصبحت مثلاً: «وما أدرى الثور أني عنترة؟» إنها حكمة تجسدت في عقله، واستخدمها في موقعها، ولم تثنه شهرته عن العيش مع الواقع، وعدم الإقدام على مغامرة غير محسوبة، لكنه ظل عنترة بن شداد الفارس، الشجاع، الماهر، واستخدم قوة قلبه في صراعه مع خصومه والصمود في المعركة حتى آخر لحظة حتى إنه قد قال بما معناه ما يميزني عن غيري ليس قوتي ولا شجاعتي فقط، فخصومي قد يملكون من الشجاعة ما أملك، لكني ربما صبرت أكثر منهم قليلاً، ولو صبروا لظفروا، والصبر وحسن الرأي أسس الحكمة وحوله تتمحور، يقول المتنبي:
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ
بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ
بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ
أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
وعنترة لم يكن شاعر حكمة، وإن كان حكيماً عند الوغى، ومصارعة الأعداء، وليس من الضرورة أن من يقول يفعل ما يقوله، أو أن من يفعل أو يسلك سلوكاً يتحدث عنه، ولكل منهجه في الحياة.
المتنبي شعره وقوله مليء بالحكمة، إن لم يكن أشهر شاعر حكمة في التاريخ العربي، حتى إنه يفوق زهير بن أبي سلمي الشاعر الجاهلي الحكيم، لكنه مع ذلك لا يتحلّى إلاّ ببعض مما نظّمه لنا شعراً ما زال خالد تستشهد به الأجيال تلو الأجيال، فلم يكن حكيماً عندما هجا قبيلة بأقذع الأبيات حتى كان حتفه على يدها، ولم يكن حكيماً عندما أخذ منه الغرور ما أخذه، ولم يأخذ عدداً كافياً من الحراس، وهو يمر ببلادهم حتى قتلوه، ولم يكن حكيماً عندما قتل عبده وفر من مصر، ولم يكن حكيماً عندما ذهب إلى مصر، ولم يقتنع بما أغدق عليه كافور من مال، لأنه كان يطمع في ولاية النوبة، وهو كثيراً ما يتحدث عن الكرم، ومعلوم عنه أنه لم يكن كريماً.
عنترة لم يقل في الحكمة إلا أبياتاً محدودة عن الموت، وأنه مصير كل حي، وأن المرء سيموت في المعركة أو خارجها، ومنه قوله:
فأَجَبْتُهَا إنْ المَنيَّة مَنْهلٌ
لا بدَّ أنْ أُسْقَى بكأْس المنْهل
فاقني حياءك لا أبالكِ واعلمي
أني امرؤ سأموتُ إنُ لم أقتل
هكذا هو لكن شعره مليء بالشجاعة والفخر بالطعان، وهو مليء بالغزل لا سيما في عبلة، ومن أجمل خصاله أن ما قيل عن أصله لم يكن ليكبت ثقته في نفسه، وإبراز قدراته القتالية الفائقة ومهاراته في ذلك.
لم يكن عنترة صاحب جسم ضخم لكنه صاحب مهارة، وإن كانت ضخامة الجسم قد تساعد، ومثل ذلك في سائر الفنون، فالمهارة هي أساس الإبداع، ويساعدها في ذلك العلم، وتلمس الأسس العلمية.
عمر بن ود العامري، كان ضخم الجثة فارساً، وشجاعاً مشهوراً في الجاهلية، وبعد ظهور الإسلام، ويقال إنه كان يسير مع أصحابه بالليل فخرج عليهم عشرة لصوص وهم في الطريق، وفر أصحابه وبقي وحده وقتلهم جميعاً، كما يُقال إنه الوحيد الذي فرَّ منه عنترة، ولا أظن أن هذه الرواية صحيحة.
وفي غزوة الخندق كان عمرو بن ود مع المشركين، وكان عمره ستين عاماً، وطلب المبارزة، فقتل الأول، والثاني، وطلب مبارزة ثالث فسكت الجميع، ثم تقدَّم علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب أن يبارزه، فالتفت إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال له: يا علي إنه عمرو بن ود، وكان علي صغير السن، وحجمه ربعة لم يكن ضخماً كما هو عمرو، ثم برز له علي، وعرض عليه واحدة من ثلاث الإسلام فأبى، أو العودة من حيث أتى فأبى، قم قال عمرو، وما الثالثة: قال أبارزك، فضحك عمرو بن ود، وقال إن أباك كان نداً لي، ولا أرغب في قتلك، لكن علي أصر على المبارزة، فقتله علي، بالمهارة والجسارة والصبر المبنية على أساس حكيم.
المهارة والشجاعة أمر مهم، وعنترة مع تعوده على القتل والدماء له قلب رقيق، ووصف بديع، لكنه لم يكن يصف جمال جسد المرأة، فلا يصف عينيها، ولا نهديها، ولا ردفها، ولا جسدها، ولا شعرها، ولا حاجبيه، غير أنه يتغنى بروحها وعاطفها، وحبها، وهيامه بها.
لقد ترك الوصف للطبيعة فأبدع في وصفها أيما إبداع، فها هو يصف روضة طن بها ذباب، حيث يقول:
فَتَرى الذُّبَابَ بها يُغَنِّي وَحْدَهُ
هَزْجاً كفِعْل الشَّاربِ المُتَرَنّمِ
غَرداً يَسِنُّ ذِراعَهُ بذِراعِهْ
فِعْلَ المُكِبِّ على الزِّنَادِ الأَجْذَمِ