أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من مترادفات الذكاء: الانتباه واللماحية؛ وهن صفات للعقل والذهن؛ فهن من ملكاتهما؛ وأما القلب وعواطفه وانفعالاته: فهي معادلة الجمال الذي من مفرداته الخَلْب والسحر (وليس هو من أفعال السحرة؛ وإنما هو استعارة لتملك الجمال كل أدغال القلب؛ ولهذا يوصف بالسحر الحلال)؛ وذلك لأن العاطفة مقرها القلب الذي لا يستهويه إلا الجمال الخلاب الساحر، وما فيه من انفعالات تُبكي أو تُضحك؛ ولا يقر قرار القلب إلا بعد القناعة؛ ولهذا فالعاطفة لا تصغي إلى حجة عقلية؛ وإنما تصغي لما ينكشف من مشاعرها؛ فقد يستعبدها ذات جمال وهمي، ثم ينكشف لها قبح المشهد؛ لكون صاحبة الجمال المتوهَّم ذات علة ينقبض منها القلب، أو أنها فاحمة اللون، وأن ما تحت غطاء وجهها فاحم غير سوي كخف البعير، وأن امتلاء عجيزتها تدليس بلفافات من القماش؛ (وإن كان ممن يحب صاحبة العجيزة الخدلجة الساقين)؛ وقد سبق لي أن تناولت بعض هذه الظاهرة ببحث عنونت له بـ(صفير العواطف).
قال أبو عبدالرحمن: هب أنني صبوتُ إلى نَعْساء خدلجة الساقين، ذات جيد تليع، وخد أسيل، ومنطق رخي.. إنها ملامح ذوقية تملكت قلبي بدءًا؛ فامتزجت باللحم والدم؛ ويتضح هذا الامتزاج: بامتقاع الوجه، واحمرار الوجنة، وتنفُّخ الأوداج.. وقال العقلاء غير العاطفيين: ليس من العيب أن تكون عاطفياً، ولكن العيب أن لا يكون مصدر عاطفتك الحجة والبرهان؛ (وهذه نصيحة متخثرة؛ لأن مهديها غاب عنه الفرق بين إدراك العقل وإدراك القلب؛ وإنما يكون الرجوع إلى العقل حينما يردع القلب انخداعه كما أسلفت ذلك آنفاً في إشارتي إلى (صفير العواطف).
قال أبو عبدالرحمن: وهناك مسألة مقاربة لما أنا بصدده؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض رحمةً بالعباد، وصلاحاً للبلاد؛ وبداية التنكر أو التملص من الأديان الشرعية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى: كان تملصاً من رحمته بالعباد، وصلاح للبلاد، وما تحتضنه من الماء الذي ينزله ربنا سبحانه وتعالى من السماء، وعلى ما في الأرض من الطيور والحيوانات كالإبل والبقر والغنم .. إلخ؛ ذلك أن الله خلق للعباد ما في الأرض جميعاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورةالبقر/ 29]، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: 21-22]، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 11 -12].
قال أبو عبدالرحمن: بدأ العبث بالأرض وما فيها، والعبث بالعقل بالسوفسطائية اليونانية ذات الأقسام الثلاثية، وما قبيلها من العبث؛ وإليكم تسلسل العبث السوفسطائي.. قال السوفسطائيون: لا يوجد شيء خارج الإدراك البشري.. سلمنا بذلك إلا أن البشر قاصرون عن إدراكه؛ وقسموا عبثهم بالعقول؛ فقالت فئة: (لا حقيقة ألبتة)، وقالت فئة ثانية: (الحق حق عند من يعتقده فقط)، وقالت فئة ثالثة (لا ندري).
قال أبو عبدالرحمن: أود أن يُراجَعَ ما يكفي من الكتب الكثيرة ككتاب (الفِصَل) للإمام أبي محمد ابن حزم -رحمه الله تعالى، وكتاب (اللامعقول وفلسفة الغزالي) -عفا الله عنا وعنه- لـ(محيي الدين عزوز).. لقد تحول العبث بالعقل إلى عقيدة منذ شدد (أرسطو) الخناق على السوفسطائية، وأوضح القوانين الفكرية؛ وهي الهوية، والسببية، والثالث المرفوع، وما اشتق منهن من بديهيات؛ (وهي أصح من بدهي بحذف الياء بين الدال والهاء).. ثم أنزل الله سبحانه وتعالى على خاتم النبيين والمرسلين عبدالله ورسوله محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي -صلى الله عليه وسلم- ما بيَّنه ربنا من استحثاث فطرة العقل السوي على الاستدلال بالبرهان الصحيح؛ فإلى اللقاء يوم السبت القادم -إن شاء الله تعالى- مع موضوع آخر، والله المستعان.