أ. د.عبد العزيز بن محمد الفيصل
جاءت مناسبة اليوم الوطني بعد حج يثلج الصدور، فقطار المشاعر ينقل الحجاج في أمن وأمان، وقطار مكة المدينة ينطلق كالسهم فتتلاشى المسافات بين المدينتين المقدستين، وخدمات الحج خدمات مميزة مع خلو الحج من الأحداث المؤلمة. نعم إننا نتذكر الأحداث الأليمة؛ فالحرائق أشعلت بالقرب من الحرم، وأحداث المعيصم في منى لم ننسها، ونتذكر أحداث التدافع التي حصلت منذ عامين فهي باقية في الأذهان، وتلك الأحداث بفعل فاعلين، فالملك عبدالعزيز وأبناؤه من بعده محسودون على الإشراف على الحج، ففي السنة الأولى لحج الملك عبدالعزيز بعد فتح مكة استطاع المخربون تعكير ماء عين زبيدة وسد المجرى بالتراب، وبعد انقضاء الحج أمر الملك عبدالعزيز الحجاج الذين ليس معهم نساء بالبقاء في المشاعر وتنظيف عين زبيدة من التراب، وقد سجل أحداث التخريب وأمر الملك عبدالعزيز أحد الحجاج في تلك السنة وهو حمد بن علي ابن فواز الشاعر المبدع، فقد حج بمفرده وكان من ضمن حجاج عودة سدير فأكثر حجاج العودة معهم نساء حيث غادروا المشاعر بنسائهم أما هو فقد بقي مع غيره ممن لا تصحبهم النساء، وبما أن الموقف يستجلب الشعر فقد قال حمد قصيدة مؤثرة أورد بعض أبياتها التي تسجل حدث التخريب وتذكر الملك عبدالعزيز:
يوم إن أبوتركي ومر بالجهاد
فكرت بوجيه النشاما غدت سُود
الليِّ تعذر صار عذره سداد
وش عذرنا ياليِّ على ضمر قُود
نحفِّره دحول عنهن الماي غادي
نحفر دحول عنهن الماي مسدود
وما بين سد مجرى عين زبيدة والأحداث الأخيرة التي أشرت إليها أحداث متفرقة، فملوك الدولة السعودية مع تفرغهم لخدمة الحج والحجاج فهم في مواجهة مستمرة مع قوى الشر التي لا يريحها إلا أن ترى الفتن مشتعلة في يوم عرفة أو أيام منى أو في الحرم الشريف وبجوار الكعبة، إنها النفوس الشريرة دأبها التخطيط للفتنة وقتل النفوس وتعطيل الركن الخامس من أركان الإسلام، لقد أنجحت الدولة حج هذا العام مع أن المملكة العربية السعودية محاطة بالأعداء؛ فجنودها في الحد الجنوبي يذودون عن الوطن ضد الأعداء، والبحر الأحمر يتربص فيه الأعداء من كل صوب والخليج العربي تغلي مياهه بالفتنة، فالحرائق أكلت السفن، والتهديدات ترمي بشرر، كل ذلك في أيام الحج. إن دولة تحمي الملايين من البشر يجتمعون في رقعة أرض محدودة لهي دولة قوية مهيبة عزيزة الجانب تستطيع السيطرة على هؤلاء الحجاج مع اختلاف لغاتهم وعاداتهم وتباين أعمارهم واختلاف أجناسهم.
إن اليوم الوطني هو اليوم الذي وحّد فيه والد الملك سلمان الملك عبدالعزيز هذه البلاد المترامية الأطراف، نعم المترامية الأطراف، فراكب المطية من طريف إلى نجران يستغرق شهرين في سفره، وراكب المطية من حقل إلى الخرخير يستغرق شهرين أو أكثر، والمسافر من عرعر إلى الطوال يمكث شهرين ونصف الشهر على مطيته، هذا في زمن توحيد المملكة. وقد انطلق البناء من يوم توحيد المملكة إلى اليوم ففتحت المدارس ثم فتحت الجامعات وبدأ تعبيد الطرق فاختصرت المسافات ثم هيئت المطارات فتلاشى الزمن للمسافر وتحولت الأشهر إلى ساعات، لم يحدث ذلك اعتباطاً وإنما حدث بالعمل الجاد والمتابعة من ولاة الأمر. فإذا نظرنا إلى مظاهر المدن والقرى ما بين زمن إعلان توحيد المملكة وزمن الملك سلمان بن عبدالعزيز وجدنا الرياض بلدة عليها سور، وفي السور بوابات لا يخرج ساكن الرياض إلا مع واحدة من هذه البوابات، منها بوابة أو دروازة الثميري في الشرق ودروازة المذبح في الغرب، ودروازة دخنة في الجنوب، ودروازة السويلم في الشمال. وقد توسع الرياض في عهد الملك سعود فهدمت أجزاء كثيرة من السور لأن البناء تجاوز السور، ثم جاء التوسع الثاني في عهد الملك خالد، واستمر التوسع إلى عهد الملك سلمان حيث أشرفت الرياض على القدية من الغرب واحتلت سفوح العرمة من الشرق، وتجاوزت بلدة الأعشى (منفوحة) من الجنوب حتى وصلت وادي نساح، وامتدت من الشمال حتى حوت بلدة الزبرقان بن بدر (بنبان) فمن يصدق أن الرياض اليوم تمتد مائة كيلو من الشرق إلى الغرب ومثلها من الشمال إلى الجنوب، إن هذا الإنجاز لهذه المدينة إنما هو بجهود الملك سلمان، فهو أميرها ومطورها، ولم ينسها بعد أن أصبح ملكاً، فقد أمر بهيئة ملكية يرأسها بنفسه ورصد المليارات لتطويرها في السنوات المقبلة، إنه أمير الرياض سابقاً وملك المملكة العربية السعودية حالياً، فهو خلف تطوير الرياض، يتابع مشاريعها ويرعى إنجازاتها.
لقد التفت إلى وسط الرياض عندما كان أميراً لها، فقد لحظ انصراف التجار إلى الأسواق الجديدة في ضواحي المدينة وتخليهم عن حوانيتهم القديمة في سوق المقيبرة وسوق الجفرة وسوق الحساوية وقيصرية الصفاة وسوق السدرة وسوق الزل، عند ذلك أمر بتكوين هيئة تعالج أسواق وسط الرياض بحيث يعاد إلى الأسواق ما كانت تتمتع به من الجاذبية للتجار وللزبائن مع المحافظة على التكوين التاريخي للأسواق وللمباني الحديثة، وقد شرعت الهيئة في تطوير وتحسين وسط الرياض، فلم تمض سنوات قليلة حتى رأينا الأسواق الحديثة في قلب الرياض، فعاد النشاط التجاري في سوق المعيقلية وسوق المقيبرة وشارع الثميري وسوق الزل، وأصبحت أسواق قلب الرياض تنافس أسواق الضواحي، بل إن أسواق قلب الرياض الحديثة بزت الأسواق الأخرى بسبب انخفاض أسعار السلع فيها.
وكلما خطت الرياض خطوة فإن أميرها سلمان خلف تلك الخطوة يفتتح مشاريعها ويتحدث عن توسعها، لقد تحدث في افتتاح معهد البريد وأشار إلى أن الموقع كان خارج مدينة الرياض، ثم تحدث في افتتاح مبنى الجزيرة وأعلن آنذاك إطلاق اسم الصحافة على الحي الجديد الذي أصبح الآن من أهم أحياء شمالي الرياض وقد فكر في تطوير حي المربع التاريخي المحتوي على قصر والده الملك عبدالعزيز، فالملك سلمان له ارتباط بهذا القصر ويعز عليه أن يطور تطويراً يفقده تاريخه، فأمر بترميمه وأن يبقى القصر ببنائه الطيني وسقفه الخشبي، وها نحن اليوم نرى قصر الملك عبدالعزيز عامراً شامخاً ببنائه القديم مع تحسين البيئة المحيطة به، فجهود الأمير سلمان أثمرت في المحافظة على القديم في هذا الحي التاريخي الذي أطلق عليه مركز الملك عبدالعزيز التاريخي، وقد أمر الأمير سلمان بإنشاء دارة الملك عبدالعزيز بحيث تجاور القصر وتحتفظ بتاريخه وتاريخ الملك عبدالعزيز وتاريخ المملكة العربية السعودية.
إن مدينة الرياض اليوم لم تعد الوحيدة في وجدان الملك سلمان , فالملك سلمان ملك المملكة العربية السعودية، فكل مدينة في المملكة بل كل قرية لها المكان في قلب سلمان. إن الإرث الذي تركه له والده يحتاج منه إلى عناية ورعاية، فرؤية الملك سلمان بعدما تسنم كرسي الحكم اتجهت إلى مكة والمدينة، قبلة العالم الإسلامي، ومن هنا كان تفكير الملك يتجه إلى هذه المدينة المباركة، فهي المدينة الأولى التي تستحق منه البذل في مشاريعها وخدمة قاصديها، فجد -حفظه الله- في خدمة هذه المدينة، ففي كل سنة نلحظ الجديد من تحسين الطرق وتطور النقل بالقطار وبناء الجسور الجديدة، فالبناء على قدم وساق، والتطور يبدأ منذ انتهاء الحج حتى حلول الحج في السنة المقبلة. أعان الله ملك البلاد الذي نذر نفسه لخدمة الحجيج وتهيئة كل ما من شأنه راحتهم وإتمام حجهم. والمدينة الأخرى في اهتمام ملك البلاد سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- هي المدينة المنورة، فقد أكمل العمل في ساحات المسجد النبوي، وسار القطار من مكة إلى المدينة، فأصبح الحجاج يجتازون المسافة بين المدينتين المقدستين في راحة واطمئنان، وقد أصبح مطار المدينة (مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز) دولياً، فالحاج اليوم يأتي من أي مطار في العالم إلى المدينة مباشرة، ثم إن مشاريع المدينة في مقدمة اهتمامات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
وولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز يتابع مشروعات الحرمين، فقد شاهدناه يقف على مشاريع التوسعة في الحرم الشريف ويناقش القائمين على البناء والتنفيذ، فهو سند والده يقف خلفه في كل ما من شأنه خدمة الإسلام والمسلمين.
هذا هو اليوم الوطني يطل بإشراقته على المملكة العربية السعودية وهي في عز تختال في ثوب مجدها وتتباهى بإنجازاتها وتفتخر بأبنائها النجباء الذين لم يخذلوها منذ تأسيسها على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز، فهم مع القائد في كل أمر يحمي المملكة ويصون حدودها عن الأعداء.
حفظ الله ملك البلاد سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان، وصان مملكتنا العزيزة من كيد الأعداء، إنه على كل شيء قدير.