إنَّ الوطن -حين يصبح موضوعًا- يغدو موردًا كثير الزحام، ولكنَّ كلَّ مزاحِمٍ يعود مرويًّا، وراضيًا؛ لأنّه يقطف من حقل نفسه. تبلغ صلتنا بأوطاننا حدَّ التوحُّد؛ لأننا -دونها- ننبتُّ منقطعين عن هُويَّتنا!
وحين نعرِّف الوطن نضمِّنه معاني، وحدودًا، وأشياء، وبشرًا، بقعة تسع كلَّ شيء، وإليها ينتمي كلُّ شيء!
يقول خوسيه غاسِّيت: «في الروح لا يوجد أشياء، يوجد حالات»، وإذا كان الوطن في -حقيقته- تجسُّدًا مكانيًّا محسوسًا فإنه يُطلق المعنى في كلٍّ جزء منه، وبهذا المعنى يصلنا به، بالفكرة، وحقيقة الوجود، والشعور، والانتماء، والكينونة الكاملة.
صحيح أنَّ الروح محتوى للحالات ولكننا -على الرُّغم من ذلك- لا ننفكُّ نعلِّم حالاتنا بالأشياء، ونعلِّق أفكارنا بحركة هذا الشيء، وذلك الشيء الآخر، بصورته، ولونه، بخفته، وثقله، بمكانه، بوجوده، وانعدامه؛ فاتصال الأشياء بالحواسِّ يحمل إلينا ما يجب تفسيره وتعبيره وتقديره، وحين يدلِّي الأدب دِلاء معونته إلى بئر المعنى، تبلغ حساسية المعنى الكامن في الأشياء أقصاها. في حالات الإيمان واليقين تغدو هذه الأشياء متصرِّفة في جمودها؛ لأنها هِبات الوهاب المسخَّرات لنا كي نعبر إلى آمالنا.
* لِمَ أتحدَّث عن الأشياء..؟
لأنني حين أقرأ تاريخًا مَّا أجد أنَّ الأشياء تصبح مُعِيَنات مخلِصة للذاكرة، وللتاريخ أيضًا، وحين أذهب بعقلي مستذكرة تاريخ هذا الوطن تفزُّ شواهده: أشياءَ مسطَّرة في المرويات والحقائق: لها وجود، وأدوار.
اسمحوا لي أن أحدِّثكم عن هذه الحواشي التي تجاور متن تاريخنا العظيم، وأن أذهب إلى منطقة الجغرافيا أوَّلاً؛ لأنها منطقة الأشياء الوافرة، ولأنها -في كثير من الأحيان- استدلالنا، ودليلنا إلى الحقيقة التاريخيَّة؛ لأنها جرت على رقعتها.
إنَّ الإنسان حين يولد لا يختار مكانه، لكنه حين يستوطنه لا يختار مكاناً سواه. وفي القسوة، والزمهرير، في حريق الشموس أو الاعتدال العابر، في السَموم والجفاف، في كلِّ ذلك يبقى معنى الوطن عميقًا لا يُمسُّ، لا يمكن أن يُقتلع؛ لأنه مغروس فينا إلى حدِّ الالتحام.
حين أحوم حول حمى الأسماء أجد حديث الحمويِّ ملهمًا وهو يخبر عن (عارض اليمامة) - (طويق) كما بات يُعرف هاته الأيَّام. عن (عارض اليمامة) يقول ياقوت الحمويُّ في معجم بلدانه: «عَارِضٌ: بالراء ثم الضاد المعجمة، عارض اليمامة، والعارض: اسم للجبل المعترض، ومنه سمِّي عارض اليمامة وهو جبلها.. قال أبو زياد: العارض باليمامة، أمَّا ما يلي المغرب منه فعِقابٌ وثنايا غليظة، وما يلي المشرق وظاهره فيه أودية تذهب نحو مطلع الشمس... ولا نعلم جبلاً يسمَّى عارضًا غيره».
في هذا القسم من عارض اليمامة، قسم الأودية التي تذهب نحو مطلع الشمس -كما ينقل الكتاب- أقفُ (الآن) جغرافيًّا، لكن إن عدتُ بعيدًا في الزمن، فإنَّ موعد العارض مع الإشراق كان موعدًا مختلفًا، ومرَّة أخرى إلى الجغرافيا، إلى الشرق الجنوبي تقريبًا من الرياض، حيث يشمخ جبل صغير في كتب التاريخ، وإن كان يغيب الآن بين منشآت الرياض، وعمارتها الهائلة، إلاَّ أنَّه يبقى شاهدًا على ما حدث قبل أكثر من مئة عام.
في مهوى مطمئن وآمن تحت هذا الجبل يسمَّى (ضلع الشقيب) كان الملك الفاتح عبدالعزيز يعدُّ نفسه، ورجاله كي تصحو الرياض -على أيديهم- على حال غير الحال الذي باتت فيه، كيلو مترات قليلة تفصل هذه الجماعة عن حصن (المصمك)، وفي منتصف ليل الصحراء البارد ودَّع الفارس بعض جيشه، وترك ركائبه ومؤونته في هذا المأوى الصخريَّ ليقتحم المدينة العزيزة مع رجاله الأربعين، وأعطى الباقين في (الضلع) ميعادًا إن لم يُعلموا فيه بالنصر فإنَّ عليهم الرجوع والنجاة، لكنَّ النصر حلَّ ودبَّت في المدينة أصوات الفلاح، وكُتب في الخامس من شهر شوال عام 1319هـ تاريخ جديد، وصار (ضلع الشقيب)، وجبله (أبو غارب) جزءًا لامعًا من ذاكرة ذلك التاريخ، هكذا تملك بعض الأمكنة حظًّا أكثر من غيرها، فيبصم فوقها الأبطال بطولاتهم، وتملؤها أصوات الهتاف والصهيل، وتشهد الوعود والخطط والعهود والمخاوف والصلوات والدعوات. وحين يخصِّص عالمٌ كتابًا للأمكنة، أو حين يفرد مؤرِّخٌ فهرسًا للمواضع، وآخر للأعلام متجاورينَ، فإنه يمنح الأرض الصلدة روحًا، فها هي جبالٌ وأودية عاشت لتروي، وسُجِّلت -في التاريخ- شواهدُ لا يمسُّها زورٌ، وأمَّا واقعة فتح الرياض العظيمة فإن (ضلع الشقيب) كان يقول: إنَّ الصحراء يمكن أن تكون حنونة، ومؤوية حين يعبرها الأبطال مؤمنينَ بقضاياهم.
سأكمل حديثي عن حضور الأشياء في تاريخنا، وبعد طبقة الجغرافيا والطبيعة، سأنتقل إلى طبقة المصنوعات، إذ تقول الروايات: إنَّ أثرًا صغيرًا من معركة حصن (المصمك) ما يزال باديًا يراه الزائر حين يتأمَّل باب الحصن العتيق، حين رمى أحد فرسان الرياض الفاتحين رمحه قاصدًا إصابة حاكم الرياض آنذاك شقَّ سنُّ الرمح الباب، وبقي الأثر صامدًا يحكي ببراعة صامتة وقائع ذلك النهار الخالد، بالأشياء الصغيرة تلك يُحكم نسيج التاريخ، في تلك اللحظة ثمَّة حدثٌ يدوَّن ومعه كلُّ ما عناه الأمر، ما شقَّه الرمح، وما آواه الجبل. إنَّ الحياة مطوَاعة حين نريد، ووافرة حين تتسع عين آمالنا، من شقٍ صغير في باب الحصن، إلى خوخة الباب الصغيرة التي لا يكاد ينفذ منها جسد رجل واحد، لم تكن تلك مجرَّد أشياء بل وقائع، وحين يمرُّ زائرٌ (المصمك) -الذي غدا متحفًا- ستقول له هذه الأشياء: إنَّ يوم الرياض العظيم الخامس من شهر شوال قد مرَّ من هنا.
* وبعض التاريخ يُكتب، ويسافر فوق نصل سيف..!
قبل أن يدخل الملك عبدالعزيز الرياض فاتحًا كان رجالات الدولة السعوديَّة يحصدون بطولاتهم بسيوفهم: لقد كانت نجد تسمع أغنية ذلك الصليل منذ وقت بعيد، (نِعَم الصديق) هكذا وصف الإمام تركي بن عبدالله مؤسِّس الدولة السعودية الثانية سيفه (الأجرب) في قصيدة نبطيَّة، بالنسبة إلى فرسانٍ يقدمون إلى معاركهم بيقين فإنَّ السيوف تغدو (أهلَّة نصرهم)، وبالنسبة إلى التاريخ فإنَّ وجود الأشياء حاضرة هي طريقةٌ لكي نتذكَّر كيف صُنع هذا التاريخ، وطريقةٌ تبقينا حاضرين ومتأمِّلين وعالقين -بحبٍّ- في لحظة النصر. في العام 1431هـ وحينما كان الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في زيارة إلى دولة البحرين تسلَّم هذا السيف (الأجرب)، وعاد السيف إلى محضن بطولات صاحبه: أرضِ نجد، وصحرائها التي حفظت صوت صليله، ولكن ما الذي حمل سيفًا صدئ النصل من حاضرة نجد إلى جزائر اللؤلؤ؟.. ما الذي يجعل سيفًا يسافر في مسافات الجغرافيا إلاَّ مكانته في التاريخ؟!.
حين وصف الأمير تركي سيفه بـ(نِعَم الصديق) كانت هذه الصفة تجسِّد أفعاله، وكيف لا تكون وهو صورة مثلى لتحقيق الأمر السماوي {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}؟!.. وحين يقطع السيف رحلته المقدَّرة، ويترجَّل حامله عن صهوة الحياة يغدو الشيء ميراثاً قوَّالا وحاكيًا، وله رمزيَّته البطوليَّة؛ ومن أجل هذا أهدى أبناء الملك عبدالله -رحمه الله- هذا السيف إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- في العام 1436هـ ليبقى جزءًا من موروث أمَّة أصيل.
إنَّ السنوات التي قطعها هذا الموروث في التاريخ، والرحلات التي قطعها في الجغرافيا هي هويَّة حامله التي تقول: إنه كان موجودًا، وأصيلاً، وحقيقيًّا، ومقتحمًا، ولا يهاب شيئاً!
عندما ابتدأت حديثي اقتبست قولاً يقرِّر أنَّ محتوى الروح حالات لا أشياء، لكنَّ الروح تحتاج إلى علامات كي تستدلَّ على ما يجب أن تمتلئ به، وما يصحُّ أن يغمرها، وإذا كان الوطن يُحبُّ دون شرط، أو سبب؛ لأنه يمتلك - بمجرِّد وجوده- كفاية كلِّ الأسباب فإنَّ بعض الأوطان لها حظٌّ مبارك مقدَّس فريد!.
ما يربطنا بهذا الوطن: هو أننا نحبُّ أن نبقى متصلين بهذا المحتوى الروحيِّ الهائل الذي قُدِّر لنا أن نكون فيه، هي قسمة مكتوبة أن نكون هنا، لكنه اختيارنا أن نكون شاكرين ووافين، وأن نقدِّر هذا الفيض الممنوح بلا انقطاع، وأن نتذكَّر أنَّ هناك -في الماضي البعيد- من غاصت قدماه في الرمل كي يرفعنا، ومن سرى في ظلمة الليل كي نُصبح، وأنَّ هناك من اعتلى أسوارًا كي يفتح لنا الأبواب!.
* ما الذي يجعلنا ممتنين لذلك كلِّه سوى روحٍ سليمة، وفطنة عاقلة، ومعرفة مميِّزة!
إنَّ أغلى الأشياء ثمنًا هي التي تغدو جزءًا من خطَّتنا ونحن نتقدَّم: تماماً مثل (السيف الأجرب)، أو (ضلع الشقيب)، أو (أثر الرمح)، من كان سيذكر هذا الشيء أو ذاك إن لم يغمره معنى عظيم؟!.
وما المعنى العظيم إلاَّ فكرة وقرت في القلب، ثمَّ صدَّقها العمل، ورأتها العين. إنَّ الأوطان تعمر بالرؤى: تلك التي سافرت منذ ذلك التاريخ، ثمَّ حطَّت في الحاضر: (رؤية) مجيدة تخطُّ وجودها، وترتِّب أشياء تمكُّنها في التاريخ الجديد: بين يدي ملك حكيمٍ، وولي عهدٍ شابٍّ جسور!.
** **
- د. سهام العبودي