د. فوزية البكر
نعيش هذه الأيام فرحة الاحتفال باليوم الوطني التاسع والثمانين الذي يذكرنا بأهمية اللحمة الوطنية والتوحد تحت راية التوحيد لحماية بلادنا من كل هذه الأهوال المحيطة بنا.
عالمنا اليوم مختلف تمامًا عما عهدناه سواء في الداخل أو الخارج. فإعادة بناء الأمة وتصحيح بعض مساراتها الاقتصادية والثقافية والقيمية ومحاولة اللحاق بالدول المتقدمة في بعض أوجه الحياة بدء بإعادة تهذيب السائقين في الطريق العام إلى حماية البيئة وتقليل الاستهلاك المحلي لمصادر الطاقة إلى محاولات حل مشكلة البطالة بين الجنسين، مرورًا بإعادة تشكيل السلوك العام في الشارع وأماكن العمل والترفيه إضافة إلى أزمة إعادة تشكيل علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع السعودي على كافة المستويات.
كل ذلك خلق تحديات كبيرة في النسيج الاجتماعي والقيمي لمجتمعنا. هذا عدا عن الأخطار الخارجية الكبيرة التي نواجهها في محاولة لإعادة تشكيل الصورة الذهنية لدولة سعودية حديثة تقوم على مبادئ الإسلام السمح وتفخر برعايتها لمقدساته لكنها لا تقبل النسخ المتطرفة منه أيًّا كان مصدرها.
هنا يذكرنا اليوم الوطني بأهمية التأكيد على تماسك اللحمة الوطنية تحت راية دولة موحدة يتجانس الناس فيها ويقبل بعضهم بعضا بغض النظر عن مناطقهم أو مذاهبهم أو قبائلهم أو جنسهم أو لونهم وهو الحلم الذي نسعى عبر سعوديتنا الجديدة إلى تحقيقه.
لكن هل هذا حقيقي فعلا؟ لاحظ كيف تغلب علينا في معظم الأحيان قوالبنا الصغيرة التي ربينا عليها فالأقرب هو ابن العم ثم القبيلة ثم المنطقة وقبلها اللون والمذهب والغنى أو الفقر:
كلها محددات لقدرتنا على رؤية من أمامنا سواء في العمل أو التفاعلات الاجتماعية المختلفة وبالطبع ستؤثر كل هذه (النظارات السميكة التي ألبستها لنا ثقافتنا وتربيتنا) في قراراتنا داخل الأسرة وفي المدرسة وفي الزواج أو حتى في اختيار الأصدقاء. كل منا يسبح في عالم توقعاته الاجتماعية والثقافية التي ربينا عليها.
يرى عالم الاجتماع الفرنسي أميل دور كايم أننا كبشر مجرد ممثلين على مسرح الثقافة نلبس ونأكل بطريقتها وقيمها ومن ثم فكل أنماط السلوك الممارسة هي انعكاس لثقافة أحادية قائمة على التفضيلات دائما لمن لديهم المال والقرب من السلطة والنفوذ الاجتماعي بحيث تتوارى التنوعات الأخرى مناطقيا أو جنسيًا أو قبليًا لصالح من يرون أنفسهم النموذج الأفضل الذي يجب أن يحتذي لذا فنحن في أحكامنا على هؤلاء (الآخرين المختلفين عنا) نأتي من ثقافة تعتقد أنها (فوق أو أفضل) وبالتالي فمن لا يتصرف بطريقتنا ولا يلبس لبسنا ولا يدرس في مدارس أبنائنا فهو لا يتساوى معنا معرفيًا أو قيميًا أو حضاريًا.
الغريب أن لا أحد يعترف بأنه عنصري بما فيه الكفاية رغم أنه في الغالب لا يقبل ملة غير ملته ولا يختلط إلا بلونه وطبقته ويستميت في مساعدة أبناء جلدته في أماكن العمل والتعليم حتى لو كان هذا
يعني حرمان من هو أكثر استحقاقًا من أبناء الوطن لكنهم ليسو من (جماعته). وطبعا يكاد يكون من المستحيل التفكير في موضوع الزواج خارج الأطر الاجتماعية المقننة منذ مئات السنين (قبيلي، خضيري، سني، شيعي، حجازي، نجدي) وهكذا.
التفكر في (عنصرياتنا الصغيرة المتعددة وتأمل أفكارنا ومشاعرنا تجاه (الآخر) المختلف قد يساعد (ولا يزيل) لكن سيساعد على وضع الصور الاجتماعية المتوارثة موضع التساؤل والتخفيف من آثارها وخاصة في المجال العام كالمدرسة والعمل والشارع... إلخ.
نحن بحاجة في احتفائنا بعيدنا الوطني الذي وضع أسسه المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- فوحد شمال المملكة مع جنوبها وشرقها مع غربها بغض النظر عن اختلافاتها الهائلة فعلينا أن نتذكر هذه الخصلة الفذة التي جمعتنا تحت راية واحدة وعلم واحد ودولة كبيرة تسمي اليوم المملكة العربية السعودية.
لنحاول مقاومة عنصرياتنا المتراكمة ولنحاول تقليم أظافرها كلما أطلت علينا وصبغت رؤيتنا للمشهد أو الشخص أو المجتمع.
لن نستطيع البقاء في عالم اليوم ما لم نقبل أن نكون أمة واحدة تحت راية موحدة لوطن يستطيع بطاقاته المنوعة وأطيافه المغرقة في الاختلاف صنع المعجزات.