أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبد الرحمن: في صريح القرائح أن عدم العلم بوجود الشيء لا يعني العلم بعدم وجوده؛ فهذه حقيقة يجب أن يسلم بها العقل الحديث؛ لأن العلم حتى هذه اللحظة يكتشف كل يوم مجهولاً؛ ولو كان عدم العلم بالشيء كافياً في الجزم بالعلم بعدمه: لما صح للعلم أن يكشف مجهولاً؛ إذ كيف يكتشف وجود ما علم عدمه؟ فهذا تناقض؛ والتناقض محال.. إن العقل الحديث يدفع بالعلم إلى غايته من أجل استكشاف أسرار الوجود ومجاهله مما أتاح الله للناس العلم به؛ إذ لم العقل يسلم بعد بأن الله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علماً؛ وبهذا ساغ لذوي الكفر دعوى أن الإيمان بالله أكذوبة تعالى الله عمّا يقول الكافرين علواً كبيراً.
قال أبو عبد الرحمن: معاذ الله أن نظن بأن العلم بالله علم معاينة، وإدراك مفتوح لرواد الفضاء، أو بالأعم لرواد المجهول، ومعاذ الله أن يعلّق بأذهاننا ما تفوّه به المهزومون من بني ملتنا الذين يرون أن الله سبحانه وتعالى سيكون في إحساس البشر إذا تقدم علم تحضير الأرواح؛ لأن الله لا تدركه الأبصار؛ وهو يدرك الأبصار؛ وهو اللطيف الخبير؛ ومن لا يؤمن بغير المحسوس متنازل عن أخص خصائص الإنسان؛ وهناك موجودات لا مراء في وجودها كالروح، والموت، والأثير؛ ولكنها لا تحس؛ فلو كان الحس هو المعيار: ما تخلف عنه شيء؛ وعدم العلم بكل شيء: هو الجهل المطلق.. قال (ديكارت): ليس مع الملحد علم؛ ومن لا علم له: كيف ساغ له أن يجزم بنفي أو إثبات.. إن من لا علم له: إما جاهل، وإما شاك؛ فهي ثلاثة أمور: إيمان بالله ينبعث من العلم به؛ وبهذا يكون المؤمن مستيقناً؛ وعدم إيمان بالله ينبعث من دعوى العلم بعدم وجوده؛ وبهذا يكون الملحد مستيقناً حسب ادعائه الكاذب، وأنى له أن يورد أي دليل؛ فعلى كثرة الملحدين: لا نعرف أن فيهم من يستدل على دعوى العلم بعدم وجود الله؛ بل مستحيل أن يوجد دليل على هذا المطلب، وعلى برهان المؤمنين.. والأمر الثالث عدم العلم بالوجود أو العدم؛ وهو مرحلة شك عارضة سلبية في الاستدلال؛ وكل ملحد إذا سألته برهانه: لم تجد عنده أكثر من القدح في أدلة الموحدين، والاستدلال على أنه لم يعلم بوجود إله واحد.. ولو وقف الملحد عند هذه المرحلة (أعني مرحلة الشك)، ولم يتجاوزها إلا ببرهان: لكان ذلك أعذر له في ميدان الجدل؛ وأما هنا فقد رجح بلا مرجح؛ وذلك هو التحكم؛ كما أن الجزم بنفي وجود الله: ليس بأولى من الجزم بوجوده؛ إذ لا دليل للشاك على القضيتين.. إذن فملحد مستيقن من المستحيلات؛ فالملحد: إما متوقف حائر لا يحب الخوض في حقيقة الإلوهية، أو جازم بغير يقين عقلي؛ ولكن بالعناد والمكابرة.
قال أبو عبدالرحمن: دعوى انتفاء الإيمان لا مقر [بالقاف] لها في نفوس الملحدين؛ وآية ذلك ظاهرتان: أولاهما أنه ما من ملحد ينفي وجود الله إلا ويثبت غيره؛ فإن عاند فلم يثبت خالقاً تهافت وتحامق كمن قال: (إن الشيء يخلق نفسه)!!؟؛ أو أن الخلق محض المصادفة.. ومن يثبت غير الله محجوج بأن المؤمنين العقلاء: لم يرتضوا إلا الإله الكامل؛ الكبير المتعال سبحانه وتعالى، المبرأ من كل عيب ونقص؛ فالملحد على رغمه: لم ينف وجود الإله؛ ولكنه عبد الحيرة والمحاجة العنادية بغير علم، والنافي بإطلاق سيبقى هذا الكون سراً غامضاً في نفسه، وسيعجزه تفسيره؛ وعلى كلا الفرضين فلا قرار لخاطرة (النفي المطلق) في النفوس والعقول.. وأخراهما (؛ وهي ثمرة للظاهرة الأولى): أن الملحد غير المعاند: قلق من براهين الموحدين؛ فهو لا يريح، ولا يستريح؛ ولقد تحامقت الناشئة؛ فقالت: إن العقل الأوربي الحديث ربيب العلم والاختراع والإبداع؛ وفي الواقع: فإن الإلحاد فكرة اختطفها الغوغائية، وأنصاف المثقفين؛ وأما علماء الذرة، ورواد الفضاء، والمبرزون في الطب والتشريح والنبات والطبيعة وشتى الاختصاصات: فقد أثبتوا وجود الله؛ وهداهم العلم: إلى أن لهذا الكون قوة تضبطه كما في كتاب (الله يتجلّى في عصر العلم) لنخبة من العلماء الأمريكان، وكتاب (العلم يدعو للإيمان) تأليف (اكرايسكي موريسون)، وبتتبع تراجم الفلاسفة والعلماء: تجد أن إثبات وجود الله ذي الكمال المطلق: ثمرة من ثمار معارفهم.
قال أبو عبد الرحمن: هب أن حقيقة الإيمان غير قائمة بنفسها من ناحية البرهان (ومعاذ الله أن نساوم في عقيدتنا، ومعاذ الله أن نشك في الحق المبين؛ وإنما هذا تنزل في الاستدلال للإقناع)؛ إلا أن لها مرجحات من خارج تبدو في ثلاثة أمور هي: الحاجة إلى العقيدة؛ وهذه الحاجة تعرف بالبرهان العملي؛ وهي فلسفة محضة للدين الإسلامي.. قال (جورج سنتيانا): إن عقيدة الإنسان قد تكون خرافية، ولكن هذه الخرافة نفسها خير ما دامت الحياة تصلح بها؛ وصلاح الحياة خير من استقامة المنطق.
قال أبو عبد الرحمن: صلاح الحياة في عقيدتنا: أنها تستجيش النفس في استشعار عظمة الله، ووجوده، وإحاطته؛ فيكون للإنسان وازع ينبثق من وجدانه؛ وحاجة الناس إلى العقيدة كما يرى (كانت) تبدو في كونها ضماناً لأصحاب الأخلاق؛ لينالوا السعادة في العاجل والآجل؛ ولهذا رأى (سكرتان)، و(فيخته) تلميذ (كانت): أن الإيمان بالله إيمان بالواجب، بمعنى أن الإنسان إذا لم يؤمن بالله لم يبق أمامه واجب؛ وإلى لقاء إن شاء الله تعالى مع بقية هذه الهموم، والله المستعان.