د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
كان من نعم الله عليَّ ومن حسن حظي معرفة الدكتور أبي فراس عبدالله بن صالح الوشمي الأمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية.
أول مرة رأيته كانت في نادي الرياض الأدبي قبل أن يتولى رئاسته، ولكني لم أعرفه حق المعرفة في ذلك الوقت فلم أكن أديم الاختلاف إلى النادي، ولكن الحظ أسعدني بلقائه حين جمعنا أول لقاء للجنة الاستشارية للمركز، ثم رأيته في الجلسة الثانية أمينًا للمركز يدير سير أعمال اللجنة، ومضت ثلاث سنوات انتهت عضويتي بهذه اللجنة ولكني رشحت لعضوية مجلس الأمناء لمدة ثلاث سنوات، وهكذا جمعنا العمل مدة سنوات سعدت فيها بمعرفة هذا الرجل العظيم، رأيت في هذه السنوات الست كيف استطاع أن يمكن للمركز وكيف يبني هيكله الإداري ويستقطب الخبراء، رأيته كيف سعى لنشر عمل المركز في أرجاء العالم ورأيته كيف يهتم بتفاصيل كثيرة يصعب على الفرد العادي امتلاك ناصيتها.
كانت العربية وإعمال المركز المتصلة همه الأول سخر نفسه لها وعكف على العمل الدؤوب لإنجازها، حتى رأيت كيف أضر ذلك بصحته فاضطر أن يلبس طوقًا حول رقبته مدة غير يسيرة، وهو رغم ذلك لا يكف عن العمل وهو لا يكف عن الابتسام والتسامي فوق آلامه.
لم يكن تحقيق ما أراد بالأمر الميسور السهل فطالما واجه العقبات، فأمر الاتصال بالناس والسعي إليهم لدعم أعمال المركز هو أمر ثقيل على النفس لا يتحقق في سهولة ويسر، رأيته والندوات تدار لا يكف عن الاتصال والمتابعة، ورأيته وأنا جالس إلى جانبه في الطائرة لم ينقطع عن موالاة كتابة التقارير. وإني لأعجب كل العجب كيف تزوى له كل الأمور فيفكر فيها ويخطط لها وينفذها على تعددها واختلافها، تدرك ذلك وهو يتلو منجزات المركز في مرحلة من مراحله، وهو لا يغفل في غمرة انشغاله بأعمال المركز عن ما يموج في المحيط العلمي والأدبي وهو متابع لما تفيض به وسائل التواصل الاجتماعي، وأذكر مثالًا أنه قرأ تغريدة كتبتها أهنئ بها أحد طلابي نوقشت رسالته للدكتوراه فاتصل بي يبدي رغبة المركز في نشر هذه الرسالة لما قرأه من ثنائي عليها.
كان جدول العمل في اللجنة الاستشارية أو لجنة الأمناء حافلًا بالموضوعات التي يستغرق إنجازها الساعات الكثيرة العدد، ولكن الدكتور عبد الله الوشمي بحكمته وحسن إدارته كان يستغرق مع فريقه الإداري وجملة من الخبراء معالجة الموضوعات وتقديمها بصورة واضحة جلية ليسهل على أعضاء اللجنتين إبداء الرأي والتوصية بما يرون، وكان ذلك يختصر كثيرًا الوقت والجهد.
حين تسمع الدكتور عبدالله الوشمي يتحدث عن مشروع أو تقرير أو إنجازات تحققت يروعك بلغته الفصيحة المسترسلة فلا تناله حبسة ولا يعوقه إرتاج، وربما ظن من لا يراه أنه يقرأ من ورقة، وهو مع ذلك يحسن تخير الكلمات ويضعها في مواضعها.
رأيته جم الخلق أريحيًّا يلقى الوفود القادمين من البلاد المختلفة للقاءات التي ينظمها المركز أو الدورات التعليمية أو الندوات والمؤتمرات، يلقى أولئك لقاء الصديق لا تفارق الابتسامة شفتيه.
أما في اللقاءت غير الرسمية فتنكشف لك شخصية الدكتور عبدالله الوشمي بأبعادها الإنسانية والفكرية والأدبية، تجده يشيع روح المرح بمداعباته اللطيفة وبما يرويه من طرائف التراث والمعاصرين، وهو شديد الحفظ للشعر العربي يطوّف بك في أرجائه، وهو لمَّاح لأمور ربما لا تخطر بالبال إذ يلقي على الحضور سؤالًا مشكلًا أو قضية فات الناس الوقوف عليها أو جانبًا بحثيًّا أهمل أمره.
والدكتور عبدالله الوشمي شاعر ابن شاعر ابن شاعر، وهو شاعر حين يسمعك شعر غيره فيتخير ما يؤنس ويطرب، وهو لا يعوزه الاستشهاد بما استظهره من أشعار العرب، وهو شاعر في لغته التي يحدثك بها وهو شاعر في سلوكه وتعامله الذي يلقى به من حوله، هو شاعر يسعدك أن تعمل معه وتجله وتحترمه. وأما شعره فهو آيات بينات على امتلاكه ناصية اللغة واقتداره، لم يمنعه استهلاك المعاني الشعراء عن طرقها طرقًا ذكيًّا مختلفًا، استثمر جميل محفوظه في تطريز قصائد جياد تملك على القارئ أو السامع نفسه وتلامس شغاف قلبه.
يغادر الدكتور عبدالله الوشمي مركز اللغة، لا اللغة، بعد أن اطمأن إلى توطد أركانه واستقامة قنواته ووضوح رؤيته واعتدال أمره وسلامة خططه وصلابة كيانه وقوة أركانه، ولا شك أنه بطريقته وبتفانيه وطاقاته الخلاقة سيتعب من بعده إن أراد مجاراته، وأحسب المركز وهو يراه مغادرًا كما قال ابن زريق:
وكم تشفّعَ بي أن لّا أُفَارِقَهُ...وللضروراتِ حالٌ لا تُشفّعُهُ
تحيات لأبي فراس من القلب ودعاء له بالتوفيق في كل درب.