د. محمد عبدالله العوين
استطراداً لمقالة الأسبوع الماضي؛ التي عنونتها بـ» أن يساء فهم الحرية» طرأت على البال أفكار داعمة وأمثلة عدة تؤيد نظرية عالم الاجتماع المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون (732- 808هـ) الذي يرى في مقدمة كتابه الضخم (العبر وديوان المبتدأ والخبر...) أن من طبيعة البشر أن يقلد المغلوب الغالب ويحذو حذوه في زينه وشينه، بدوافع نفسية مختلطة متداخلة بين الانبهار والإعجاب والذلة والانكسار، وليس من تفسير مقنع أبدا -حسب رأيه في المقدمة- لإعجاب العبد بسيده والخضوع له؛ على الرغم من أنه قد يذله ويضطهده إلا سبباً واحداً فحسب وهو أن الخاضع والمقلد (خادماً أو شعباً أو أمة) فقدوا عناصر القوة التي ترتفع بهم عن الاتباع إلى الابتداع وترقى بهم عن الانقياد إلى القيادة وعن الاستنساخ الغبي إلى الابتكار والتفرد وعن الذوبان في شخصية الغالب إلى الاعتزاز بالهوية والحفاظ عليها.
لقد وقف ابن خلدون في مقدمته العظيمة التي تعد الجزء السابع من كتابه التاريخي وقفة الدارس بصرامة العالم وبتجرد المفكر عن أسباب نهوض الأمم وأسباب ضعفها وانهيارها فذكر أسباباً كثيرة ليس هنا موضع الإسهاب فيها، ثم أشار إلى أسباب القوة فأطال حينا وأومأ حينا آخر إلى مقومات نهضة أية أمة؛ ومنها الحفاظ على الأسس القيمية والأخلاقية والذاتية التي نشأت ونمت وتطورت عليها، والاعتزاز بالذات ومعالجة ما يلحق بها من أوضار وأخلاط دخيلة لا تتفق مع طبيعتها واكتساب المفيد من الصنائع والمهن والأفكار التي تنسجم مع شخصيتها.
وفي هذا السياق وانطلاقاً مما قدحه الشيخ الجليل المعلم ابن خلدون في عزلته الفلسفية في السنوات الأربع الأخيرة من حياته بمصر والتي تمخضت عن السِفر (المقدمة) تبرز أمامي أمثلة مكشوفة لما أبدعه من أفكار.
فحين كنا الغالبين المنتصرين في الأندلس خلال ثمانية قرون؛ وبخاصة في العهود الزاهرة إبان الإمارة ثم الخلافة الأموية كان الأوروبيون يأتون إلينا مهرولين من فرنسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا وغيرها يتعلمون ويقتبسون من معارفنا؛ بل إنهم لا يكتفون بما تعلموه في الطب والفلسفة وغيرهما فيتعلمون لغتنا العربية ويرتدون ملابسنا ويقصون شعورهم على قصات شعورنا ويقلدون مائدتنا العربية التي كانت مرتفعة عن الأرض على نظام البوفيه التي تتغير فيها أطباق الطعام.
وحين ذهب شاعرنا العربي الأندلسي يحيى الغزال (156- 250هـ) بسفارة من الأمير عبدالرحمن بن الحكم الملقب بالأوسط (176 - 238هـ) إلى بلاط الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس رداً على سفارة كان الإمبراطور أرسلها طلباً لود الأمير عبدالرحمن؛ ذهلوا من أناقته ووسامته واعتزازه بشخصيته ورفضه الانحناء للإمبراطور عند الدخول إلى القاعة الكبرى من باب سقفه منخفض جدا فجلس ثم دخل، فقيل له: كيف لم تنحن؟ قال: نحن لا نركع إلا لله!.
وإلى المهزومين والمهزومات الذين فقدوا هوياتهم وأصبحوا سخرية؛ اعتبروا أيها المنبطحون من مواقف الشعوب اليابانية والصينية والهندية -على سبيل المثال- فقد بنوا حضاراتهم الحديثة بتميز ولم يفقدوا ذواتهم وتراثهم وتقاليدهم.