د. حمزة السالم
جاءت ولادة صندوق النقد الدولي كإحدى النتائج الجانبية لمعاهدة برتن وود عام 1944م. فقد تولد صندوق النقد ليكون أشبه ما يكون بالذراع البوليسية المنظمة والمراقبة والمساعدة لتنفيذ وتوظيف قرارات تلك المعاهدة التاريخية، فقد كان هدفه هدفًا نقديًّا يتمثل في المحافظة على استقرار أسعار الصرف بين العملات الدولية، ويدخل في ذلك منع التضخم النقدي وضمان التوازن لميزان المدفوعات العالمية.
وقد مارس الصندوق دور المراقب والمحاسب والمعاقب لمدة 27 عامًا على جميع دول العالم.
وبانهيار نظام برتن وود، ظهرت أسواق العملات لتنتزع زمام السلطة البوليسية من صندوق النقد الدولي. فأصبح سوق التعويم، يقوم بدور البوليس الحر المستقل عن السلطة الدكتاتورية الذي يراقب الدول جميعها دون تفريق ويعاقبها في آن واحد. وانهار الدور البوليسي لصندوق النقد الدولي، وحانت شمسه للأفول. فخمسة تريليونات دولار تباع وتشرى يوميا في سوق العملات، كفيلة بكشف عجز ميزان المدفوعات بل وبكشف حتى النوايا للتلاعب بطبع الأوراق النقدية.
ولم يقبل منسوبو الصندوق انتهاء دورهم وخروجهم من الساحة الدولية، فهندسوا له دورًا يبقيهم في الساحة الدولية. ولذا لم تغرق مركب صندوق النقد الدولي تماما بسبب انهيار نظام برتن وود، بل غربت شمسه كبوليس دولي لمراقبة النظام المالي بينما احتفظ بدوره الاستشاري والبحثي ودوره السياسي الذي يتمثل بالضغط على الدول التي تمر بأزمات مالية، مقابل إقراضها أو إعانتها بضمان سنداتها. فالصندوق يقدم قروضًا لدعم العملات النقدية للدول، قد يقدم ضمانات لديونها، وقد يكتفي بتقديم التعهدات والإرشادات والضمانات للسندات الحكومية، لدعم النظام النقدي للدولة المنكوبة.
والإشكالية الظاهرة في نصائح وإرشادات صندوق النقد الدولي، كونها نظرية أكاديمية محضة. فهم يعتمدون اعتمادًا كليًّا على تنظيرات السوق الحرة التي استُنبطت من السوق الأمريكية وبنيت عليه. ودون أي مراعاة لمعطيات الفروق الثقافة الإنتاجية بين الاقتصاديات العالمية. وصندوق النقد الدولي في حقيقة الأمر أشبه بمدرسة تطبيقية لتدريب خريجي الدكتوراه في الاقتصاد، والذين هم خريجو الجامعات الأمريكية أو الجامعات العالمية التي تتبنى المناهج الأمريكية أو النظريات التي تتبعها.
فتوصيات صندوق النقد الدولي لا تزيد عن كونها بحوثًا سطحية تقليدية يقوم بها أغرارٌ حديثي عهد بالاقتصاد. فلا يُعتمد عليها، لا تطبيقًا ولا دراسة. وهناك شواهد على عدم صلاحيتها تطبيقيًّا أو بحثيًّا. فأما التطبيق، فكم من المصائب سببتها توصيات صندوق النقد الدولي لاقتصاديات دول، حتى نُسجت نظريات المؤامرة حول الدور الذي يلعبه الصندوق، وما من مؤامرة، فما توصياته إلا مخرجات خريجي دكتوراه غرٍ لم تعركهم وقائع الاقتصاد. وسأشير هنا لبعض الأخطاء التي اعترف الصندوق بها رسميًّا، كأخطائه ومواقفه خلال أزمة نمور آسيا، وفي نصائحه التقشفية لأوروبا وأخطائه تجاه اليونان. والقائمة تطول، ومن شاء فليرجع إلى مساهمات الصندوق الدولي وتوصياته التي طبقت وليبحث عن أي نسبة نجاح فيها، وباعتراف الصندوق نفسه.
وأما بحثيا، فبحوث صندوق النقد الدولي غير معترف بها كمراجع في رسائل الدكتوراه عند الجامعات المرموقة، وأذكر أن مشرفي في الدكتوراه، عاتبني عتابا شديدًا عندما رأى في رسالتي مرجعًا من صندوق النقد الدولي!
وأما الإشكالية المسكوت عنها، في نصائح وإرشادات صندوق النقد الدولي، فهي أن كل من انتسب إليه، قام يمارس ما مارسه جيل الصندوق الأول، من السياسات التي تبقيهم في الصندوق أطول فترة ممكنة.