حضرت خلال إجازتي في لندن مسرحية «شبح الأوبرا» للمرة الثانية في حياتي.
لا يعتبر هذا خبرًا مهمًا، إلا أن أهميته تكمن في حضوري المرة الثانية بعد مرور ثلاثين سنة على حضوري الأول.
أتذكر الدعوة التي يرددها والدي- يرحمه الله- دائمًا: «الحمدلله على طول الأعمار والتردد في الآثار».
مرت ثلاثون عاماً كلمح البصر، ولا تمر الأعوام سريعة إلا إذا كانت حياة هنيئة ولله الحمد.
وكما يقول الشاعر الأمير خالد الفيصل: «عذبات الأيام ما تمدي لياليها».
وما إن بدأت أحسب الفترة الزمنية بين الحضور الأول والحضور الثاني حتى تذكرت أيضاً قصيدة شاعرنا وأميرنا الأمير خالد الفيصل عن «الستين»، ملخصاً فيها تجربته الفريدة.
عندما سألت سموه عن قصيدة السبعين، قال لي إنها نُشرت، وفي موعد اللقاء الثاني زودني سموه بنسخة خاصة خلال زيارته لمستشفى الملك فيصل التخصصي، كانت لحظة فرح تشابه فرحة استلامي شهادة التخرج العليا.
واكتشفت في نفس الوقت انشغالي عن المطالعة، وعن الشعر، وانغماسي في العمل الطبي.
مرت ثلاثون عاماً،كان الحضور المسرحي الأول لي وكم كنت منبهراً،
وما زلت منبهرًا!
فعندما حضرت العرض الأول عام 1988، لم تكن المسرحية قد جاوزت العام الثالث من العرض لتستمر إلى هذا اليوم، لمدة أربعة وثلاثين عاماً متواصلة، في نفس المسرح.
اعتقدت في ذلك الوقت أنه لا يمكن أن يوجد شيء يمكن تعديله على العرض.
كل شيء كان مبهرًا، لا يوجد أي خلل، لا يوجد أي تردد، لا يوجد أي شاردة لم يحسب لها حساب.
سقوط الثريا، مطاردة الشبح، الإضاءة، الحركة...
وبعد ثلاثين عاماً لاحظت أنه قد تم تغيير عدة أشياء على العرض الأول، زادته جمالًا وتألقاً.
كيف لهذا العقل البشري أن يستطيع تطوير الجمال.
كان الحضور الثاني شريطاً من الذاكرة الجميلة،
الحضور الأول مع زملاء لازالت تربطني بهم علاقة صداقة جميلة.
والحضور الثاني مع ابنتي دانا، التي قرأت الكتاب وتود مشاهدة العرض.
الحضور الأول خلال التحضير لتجاوز الاختبارات المؤهلة للزمالة الملكية للجراحين،
والحضور الثاني خلال التحضير للتقاعد من العمل الطبي!
العمل الطبي الذي تشرفت خلاله بعلاج جميع ملوك المملكة العربية السعودية الذين عاصرتهم، وأمراء المناطق وكذلك العديد من أصحاب المعالي الوزراء وضيوف الدولة والآلاف من المواطنين.
بين العرضين وخلال ثلاثين عاماً، مرت أحداث مؤلمة بلا شك، سرعان ما تتبعها أحداث جميلة، أجملها رفيقتي في هذا الحفل، ابنتي التي تبلغ الآن 16 عاماً.
من اجتياز الاختبار المؤهل للزمالة الملكية خلال العرض الأول، مروراً بالعمل في كندا، أمريكا، أستراليا، ثم العودة إلى الرياض والاستقرار في جدة.
هناك شيئان لم يتغيرا،
لم يتغير شيء في داخلي.
ولندن لم تتغير، تستطيع السير في نفس الشارع وترى نفس المحلات وتصل إلى المسرح بنفس القطار الذي نقلك منذ ثلاثين عاماً.
لكن الحياة المحيطة بي تغيرت تغيراً جذرياً. لا يمكن حصره.
كما هي اللوحة التي تشير إلى تاريخ بناء المسرح منذ 140 عاماً، من قبل أحد الممثلين في ذلك الوقت، والذي قام بإدارته لمدة عشرين عاماً، لوحة تلخص الكثير عن أعمال الترفيه،
لابد من البدء بخطوات محسوبة بدقة لتصل إلى ما بدأه الآخرون منذ مائتي عام.
ليستمر العمل ناجحاً لفترة طويلة، يجب أن يقوم به أصحاب المهنة. فالمستشفى الناجح يقوم به الطبيب الطموح، والمسرح الناجح يبدأه الممثل بنفسه.
لكي ينجح العمل، لابد أن يدار من الشخص الذي يهمه هذا النجاح.
أي شخص يحصل على مرتب لكي يقوم بالعمل، سيعمل ضمن إطار محدد، إطار النظام والصلاحية وقد لا يراعي الحسابات المتعددة في الأرباح والخسائر.
لم أجد أي مطعم أو أي مصلحة تجارية تنجح وتتطور إلا وكان صاحبه هو المدير الفعلي.
«صاحب الصنعة» سيهتم بالتكاليف والمردود المادي والمعنوي لبناء الترفيه الملائم في بيئته التي يعيش فيها، وسيحافظ دوماً على الجودة.
يقوم على تخريج دفعات الممثلين لهذا العرض المسرحي أكاديميات عامة للتمثيل، (إجادة التمثيل والحضور المسرحي) وبعد ذلك يكون التخصص لنوع العرض المسرحي (الرقص والموسيقى)، ثم التخصص الدقيق للنص المسرحي الخاص حسب السيناريو المكتوب.
يوجد عدة ممثلين للدور الواحد الذي يتواصل يومياً منذ34 عاماً منها مرتان يوميا كل يوم خميس، ومن المتوقع أن يستمر عرض هذه المسرحية لعشرات السنين القادمة.
المهمة الصعبة لا يمكن الحكم على نجاحها أو فشلها من خلال التقييم الأول، ولا يمكن أن تنجح إذا لم تكن نابعة من ضمن تذوق المجتمع لنوع الترفيه المقترح.
فرغم أنه قد حضر هذه المسرحية فقط ما يزيد على مائة وأربعين مليون نسمة خلال تجوالها في مسارح العالم، وعلى الرغم من ضرورة حجز المقاعد قبل الحضور بعدة أشهر حيث يحضرها جمهور من كل أنحاء العالم، ورغم حصدها لجوائز لا حصر لها، رغم ذلك كله، فإنه يزور لندن الكثير من المواطنين دون أن يخطر ببالهم حضورها.