د.سالم الكتبي
ظل الموقف الأوروبي تجاه الاتفاق النووي الإيراني طيلة السنوات القليلة الماضية ثغرة مهمة، ينفُذ منها نظام الملالي إلى تحدي العقوبات الأمريكية؛ فالتردد والحذر الأوروبي قد شجّعا الملالي كثيرًا على ارتكاب الكثير من الانتهاكات واختراق القانون الدولي.
هذا التردد نابع بالأساس من الخوف من نشوب صراع عسكري واسع النطاق في الشرق الأوسط، وهو تخوف له منطقيته، ولكن النظام الإيراني في المقابل لا يأخذ في الاعتبار مثل هذه التخوفات والحسابات المنطقية التي تراعي مصالح الشعوب، بل يتخذها مطية للمُضي في تنفيذ أهدافه ومخططاته التوسعية الطائفية!
ولما فاض الكيل بالجانب الأوروبي خرجت تحذيرات مشتركة من بريطانيا وألمانيا وفرنسا من استمرار النظام الإيراني في خرق بنود الاتفاق النووي الموقَّع عام 2015.
هناك عوامل عدة أسهمت في تحريك الموقف الأوروبي، واقترابه من الموقف الأمريكي بشأن إيران، أولها وجود رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الأكثر تشددًا في التعاطي مع النظام الإيراني، ولاسيما بعد مراوغات إيران في أزمة ناقلة النفط التي ترفع علم بريطانيا. وثاني هذه العوامل إخفاق الرئيس الفرنسي ماكرون في حلحلة الموقف الإيراني، وإفشال مبادرته لعقد قمة أمريكية ـ إيرانية في نيويورك. وثالث هذه الأسباب استشعار أوروبا الحرج الشديد في ظل استمرار انتهاكات النظام الإيراني للأمن الإقليمي في الخليج العربي، ومواصلة إصدار التهديدات بشكل يضع القوى الكبرى في حرج بالغ من جراء عدم قدرتها على كبح جماح هذا النظام. وما يفاقم الاستياء الأوروبي أن هناك تصريحات، نُشرت مؤخرًا على لسان المرشد الأعلى الإيراني، يهاجم فيها بشدة الدول الأوروبية، ويتهمها بالتبعية للولايات المتحدة، وعدم القدرة على تنفيذ إرادتها وسياساتها.
محصلة التغير النسبي في الموقف الأوروبي قد تكون مزيدًا من الاقتراب من الموقف الأمريكي بما يسهم في بناء موقف دولي موحد تجاه تهديدات النظام الإيراني، ولكن هل يسهم هذا التغير في انسحاب القوى الأوروبية الثلاث من الاتفاق النووي؟ الإجابة تعتمد على سلوكيات نظام الملالي ذاته؛ فالاستمرار في خرق بنود الاتفاق يعني بالتبعية تفريغه من مضمونه، وتحوُّله إلى حبر على ورق، ومن ثم فإن البديل الطبيعي قد يكون انسحابًا أوروبيًّا، يتماهي مع الانسحاب الأمريكي من الاتفاق.
ربما يقتصر الموقف الأوروبي أيضًا على كونه رسالة تحذير شديدة اللهجة للنظام الإيراني، ولكن هذا الأمر يتوقف على كيفية تلقي الملالي هذه الرسالة، وكيفية الرد عليها. والأرجح أنهم سيواصلون سياسة الكِبْر والغطرسة والعناد ظنًّا منهم أنها كفيلة بتركيع القوى الكبرى، وإرغامها على الاستجابة للشروط والمطالب الإيرانية. وهذا أمرٌ مشكوك فيه إلى حد كبير.
صحيح أن النزعة الانتحارية الواضحة في الخطاب السياسي الصادر عن القادة والمسؤولين السياسيين والعسكريين الإيرانيين باتت طاغية، وتتفاقم يومًا بعد آخر، ولكن هذه النزعة لن تحد من الرغبة في التصدي للتهديد الإيراني إذا توافرت لهذه الرغبة شروط معينة، مثل التوافق الأطلسي، ونجاح إدارة ترامب في بناء قضية تقنع الرأي العام في مختلف الدول بأهمية التصدي للخطر الإيراني، وما يتطلبه ذلك من قرارات قد يكون في مقدمتها توجيه ضربة عسكرية ضد إيران.
لا يدرك الملالي أن الصراع يتحول تدريجيًّا إلى صراع استراتيجي معقَّد حول الأدوار والهيمنة في منطقة الشرق الأوسط. وهنا قد يختلف الأمر بما يتطلب من القوى الأطلسية لجم إيران وطموحاتها الإقليمية التوسعية؛ كي لا تتحول إلى تهديد مستقبلي محتمل ضد أوروبا نفسها.
نظام الملالي يهدِّد دولاً عدة في المنطقة بالاعتداء عليها من الشمال والجنوب والشرق والغرب، ويلمح دومًا إلى أذرعه الميليشياوية في لبنان واليمن والعراق والأراضي الفلسطينية وسوريا، ويتحدث عن جبهة ممتدة جغرافيًّا، وقادرة على زعزعة استقرار المنطقة، وذلك في اختبار قوي لدور أوروبا، وليس للولايات المتحدة فقط.
صحيح أن العلاقة بين الشريكَين الأطلسيَّين (الولايات المتحدة ودول أوروبا) محكومة باعتبارات ومحددات يعرفها الاستراتيجيون جيدًا، ولكن الشرق الأوسط يمثل ورقة بالغة الحساسية بالنسبة لأمن أوروبا واستقرارها، ليس فقط في ضوء موارد الطاقة، ولكن أيضًا في ضوء سيناريوهات تدفق اللاجئين التي باتت من أصعب القضايا التي تواجه أمن واستقرار القارة الأوروبية.
تطوُّر موقف أوروبا تجاه نظام الملالي بات يعتمد الآن على خطواتهم المقبلة، وهل ستكون بمواصلة التحدي بخرق بنود الاتفاق النووي، ومواصلة تخصيب اليورانيوم، أم بمحاولة التعقل وتشجيع أوروبا على مواصلة دور الوسيط مع الولايات المتحدة الأمريكية.