عماد المديفر
يتهم بعض الباحثين الإمبريقيين الوضعيين باحثي المنهج النوعي بعدم الانضباط بمنهجية واضحة ودقيقة، قائلين: إن أبحاثهم تفتقر للمصداقية، والموضوعية، ولا تبرهن نتائج دراساتهم على شيء، فهي لا تختبر فرضية، ولا تبرهن نظرية، كما يتهمونهم بالتعالي. فيما يرى بعض الكيفيين أن الكميين سطحيون، فهم لا يغوصون في أعماق الظواهر، بل يكتفون بوصفها وصفًا بسيطًا، ثم هم يعممون النتائج، متناسين أن منهجهم بالأساس منسوخ من المناهج البحثية في العلوم الفيزيقية البحتة، التي لا تتناسب مع الطبيعة الإنسانية، إِذ كل إنسان عالم مستقل بذاته.. وهنا يأتي التساؤل: هل نحتاج للبحث النوعي؟ أم البحث الكمي؟ وهل يمكن لنا أن نستغني بأحدهما عن الآخر في مجال الدراسات الإعلامية؟
الواقع أن لكلا المنهجين أدواره المميزة في مسيرة البحث عن المعرفة وفهم الظواهر، تتواءم وسماته الخاصة، فعند وصف الظواهر واختبار علاقات متغيراتها، وتحديد أسبابها وتداعياتها، يبرز المنهج الكمي الذي يمتاز بالاستدلال، والصرامة، ويوظف درجات عالية من القياس، والتحليل المختزل والمقنن للمعلومات، وعادة ما يجيب على التساؤلات التي تسعى للتعرف والتحقق من ظاهرة أو اتجاه، أو سلوك، أو حدث ما، و»لماذا يحدث ما يحدث هناك؟ هل لوجود ارتباط بين كذا وكذا؟»، فهو يوظف المقارنات بين المجموعات، أو المتغيرات، ويختبر الفرضيات، لمعرفة العلاقات، أو المسببات والنتائج. وهذه النوعية من التساؤلات كثيرًا ما نجدها في حقل البحوث الإعلامية، كما هي دراسات التأثير، والنظم، والوظائف، واختبار النظريات. فيما نحتاج للبحث النوعي عندما نريد أن تجيب الدراسة عن أسئلة تتجاوز مجرد وصف الظاهرة، لتغوص في الأعماق لشرح «ماذا يحدث بالتفصيل؟» و»كيف يحدث؟» وهي كذلك موجودة بكثرة في حقول الإعلام ودراسات الرأي العام.
ومن هنا تظهر الطبيعة التكاملية بين المنهجين، خصوصًا في المجال الإعلامي.. فعند الحاجة لاستقراء ظاهرة غير معروفة، ولا توجد متغيرات معلومة عنها، ولا نظرية تشرحها، نتجه للبحث النوعي ابتداءً للكشف عن المتغيرات، وصناعة المفاهيم، وتراكيبها، ومناقشة الفرضيات المحتملة، لبناء النظرية، وعندما تكون النظرية موجودة، والمتغيرات ظاهرة؛ نتجه للكمي لوصفها، واختبار العلاقات، ومعرفة الأسباب، والاستدلال والتعميم. ثم عندما نريد أن نتمعن في كيفية حدوث ظاهرة، أو علاقة ما، والتعمق لمعرفة تفاصيل أدق عنها، ربما تبدو أكثر مما تستطيع الأسئلة الإمبريقية المغلقة الإجابة عنه؛ نعود مرة أخرى للمنهج الكيفي ليضيف المزيد من المعلومات الدقيقة الفريدة. بيد أن السؤال الذي لا يزال يراود الباحثين النوعيين: كيف للأكاديميين الكميين أن يحكموا دراساتهم النوعية، وهم في الأساس لا يزالون يرونها بحوثًا غير علمية، كونها لا تتبع خطوات علمية منهجية صارمة؟ حتى إن الباحث النوعي قد يتجه إلى الميدان دون وجود أسئلة بحثية واضحة، فضلاً عن خطة بحثية محددة وثابتة ومصادق عليها؟!