د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** استوقفته في سيرة المفكر الإيطالي (أنطونيو غرامشي 1891-1937م) محطاتٌ كثيرةٌ في عمره «العريض»، وقد صدر كتابٌ «مترجم» لمختاراته يعطي تصورًا عنه بوسمه أحد أكبر المفكرين الأوربيين في القرن الماضي، وإذ لم يكن من ذوي الحضور في الساحة الثقافية العربية المعزوِّ سببُه لقلة ما تُرجم له، كما لصرامة أدلجته، والتزام لغته، فالظن أنه سيبقى بعيدًا عن التناول المعتاد إلا للباحثين في تأريخ الحركة اليسارية المتطرفة في زمن بداية الثورة البلشفية، حيث أسهم في تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي عام 1921م.
** عاش مستهل حياته بائسًا عليلًا يعمل عشر ساعات في اليوم ليكسب تسع ليرات لا تكاد تفي بمؤونته من الخبز؛ يبكي ولا يدري به أو عنه أحد، وحين انتقل من «سردينيا» إلى «تورينو» للدراسة الجامعية لم يرفه عن نفسه بالضحك ولا بالبكاء.
** سندعُ باقيَ سيرته لمن شاء قراءتها لنتوقف عند معابر مهمة فيها، وهي: حياتُه لعقله لا قلبه، وامتناعُه عن الابتسام والدموع حولين كاملين، وعدم معرفة والدته بمعظم أشيائه، والظنُّ أن فينا كُثرًا أشبهوه في فترة صباهم، وما يزال فينا من يشبهونه دون أن يبلغوا مكانته.
** ذاك مفتتح الحكاية؛ فالذهن لا ينفصل عن العاطفة، والحزنُ شقيق الفرح، والأم موئلُ لغتنا ولغونا فلا حجاب عنها، ومن أسرف في النأي عن حماها فقد افتقد الملجأَ والمنجى، وإذ لكلٍّ وجهةٌ هو موليها فإن في قراءة «غرامشي» لنفسه ما هو أقسى؛ إذ يروي أن من أشدِّ آلامه خذلانَه لأستاذه «بارتولي» الذي اتكأَ عليه ليقف في وجوه مجددي اللغة.
** كانت شخصيتُه أقوى من تابعٍ يرضى مكانه بين سفوح الاستنساخ، وليس أمرَّ على قلب الحر وعقله من أن يتجسد رقمًا غير ذي بالٍ ليُلحقَ بسجلات سواه، لكن «المفكر الكبير» - وقد صار رمزًا لبني أبيه - اعتلى المركبَ الخطأَ في أكثرَ من محطة دون أن يتورى عن أعبائها وتبعاتها، وليتنا نستقي من التجارب المحبِطة بمقدار ما تستوعبُ قراءاتُنا ومتابعاتُنا كي لا نظل مأسورين لسراب الملمَّعين بأنا الاعتلاء ترفعًا أو الادعاء تواضعا.
** سئمنا النجوم بصناعتهم وتصنعهم حتى أُتخمنا بهم، وبتنا نتلمس بقايا النماذج والقُدوات بين العاثرين والمنزوين، ولعلنا لا نخطئُ مثل «غرامشي» نفسه الذي عاب على من يقرؤون للأجانب خضوعهم لهيمنة فكرية ووجدانية خارجية؛ فكذا هم المؤدلجون والحزبيون.
** من يستلهمُ الفكر لا يسأل عن الاسم ولا الوسم، ولا يعنيه من أين يسفر الصبح وسط ركام فراغات هازئة هزيلة لا تعايش الظرف المكاني والزماني والقِيميّ، وفي الطرح الرقمي اليوم صورٌ لا تُؤلف ولا تُعرف ولا تُعزف؛ هدفها الإثراء وهجيراها هباء، ولا قيمة فيها كما لا قمة لها؛ فكذا نجوم اليباب وعروض السراب.
** الثرى لا يسكن الذرى.