سُئل عالم الكيمياء «لينوس بولينج» الفائز بجائزة نوبل من أحد طلابه عن كيفية التوصل إلى الأفكار الجيدة فقال «الأمر سهل؛ لديك أفكار كثيرة، خذ القليل والمفيد منها ثم تخلص من الباقي». وكثيرًا ما يغلَق تساؤل صعب المراس مع عقولنا بإجابة سهلة وقصيرة؛ فالأفكار السهلة والساذجة قد تكون أعمق أثرًا من الأفكار التي تحمل صبغة العظمة، ثم لا تتجاوز بصاحبها حدود تلك القصاصة المدونة. نعم، الأفكار السهلة وما نكرهه من وجه ولسنا متأكدين ما إن كنا نحبه من وجهٍ آخر كما تشير الحكمة. فالعام الجديد مثلاً نبدؤه بأمنية الإنجاز، والإنجاز أولى حلقات الفَنَاء! فما أعجل الإنسان وما ألذّ الحياة، وما أصعب أن تحب ذات ما تكره!
وحدها تجاربنا من تتكفل بحل هذه المعادلة الغريبة، كيف أنّ لوجهين متناقضين أن يتعاقبا على إدراكنا ووعينا، ولا ينفكا حتى الوصول بنا إلى البعد الكامل والحقيقي الذي يحدد معاييرنا في تقييم ما نحب وما نكره، حتى الفوضى في شؤون الحياة غريبة ومربكة، لكنها سرعان ما تمنح فرصة للعبور على سجادة حمراء أو تحقيق جائزة مشرفة بسبب بعثرتها الأفكار والإشغال المتكرر.
ربما دائمًا ما يكرر بعضنا في ذواتهم «ماذا شئت؟»، أو «افعل ما تشاء»، «وكن كما تشاء» وابحث في كل الطرق الموصلة إلى تلك المشاعر الغامرة لطَرْق كل جديد. ولم يدر حينها بخلدي أن صناعة الغربة للإنسان هي صناعة فولاذية، تمكنه من امتلاك أثمن أحاسيسه وأنبل غاياته، بل ربما من أجمل صداقاته وعلاقاته، ومن وجد طريق الاغتراب فقد منح عمره وذاكرته معنى بليغاً من امتثالات العظماء عبر العصور. الأهم هنا أن تدع الفرصة لتقرر ما تشاء، وكن ممتناً لأنها من الأفكار سهلة التناول وعظيمة العود.
أسجل مواقف فوضوية متعددة، وأتعمد ملاحقة تلك الأفكار الضائعة، حتى بين الكتب المبعثرة ألتقط فكرة وأنا عابر أو بعد الأكل وقبل النوم أو نهاية الدوام. هذه التجارب ربما كانت بمنزلة منهج عمل، أداره بيتهوفن صاحب المكتبة المبعثرة، وتشكلت بسببه أفكار آينشتاين الذي عانى طويلاً من علاقة عاطفية ممزقة، بينما كان يقدّر توازن كرة الأرض في المدار، ويلمح الثقب الأسود بعينيه الصغيرتين. لقد رسموا أنفسهم كما يشاؤون.
وفي خضم هذا الازدحام ربما تتأتى تجارب أمة بأكملها كتجربة مدينة كالكوتا الهندية، حينما اكتظت بالفوضى والفشل الإداري والحكومي والفقر المنتشر في الأوساط قبل عام 1932 م، ثم انطلقت مؤسساتها في حركة حضارية غريبة، شكلت خلالها أكوامًا من التجارب الفكرية والثقافية والعلمية والإنسانية، وبعثتها عاجلاً إلى بوابة التصدير العالمي حتى حققت ثاني أنشط مدينة في العالم بعد «لندن» في طباعة الكتب، وحصل اثنان من أبنائها على جائزة الأوسكار وجائزة نوبل، وتفوقت في مجال الإنتاج السينمائي على مدن الإنتاج الضخمة. لقد كانت موطناً للغرابة والفرص الكبيرة والأفكار الجديدة المتتالية كما يصورها المراقبون.
** **
- عبدالرحمن بن ظافر العمري