سهام القحطاني
عندما نتحدث عن المعرفة فنحن نتحدث عن «الكائنية الفكرية» التي تُشكِّل الحضارات الإنسانية وتؤسس مصادر النهضة وفواعلها.
تنبني فلسفة أي هيكل اصطلاحي من خلال الجدل المحيط بالبنية المنطقية لمفاهيم ودلالات ذلك المصطلح وإجراءاته ومظاهره وآثاره.
وقبل التعرف على سبب ذلك الجدل، علينا أن نقف على سؤال يدخل في الاعتبار الوجودي، أيهما أسبق «الممارسة» أم «المصطلح»؟.
بمعنى هل المصطلح هو الذي يُنتج الممارسة، أم الممارسة هي التي تُنتج المصطلح؟؛ لأن هذا السؤال الوجودي هو الذي يُشكل الصراع النهضوي في المجتمعات.
تتشكل كائنتنا الفكرية في أولياتها على ركيزتين يتحركان من خلال قدرة الإنسان على الفهم والاكتشاف والتعلّم والتطبيق، وتلك الركيزتين هما:
*»الاقتضائية»، وهذه الاقتضائية غالبًا هي التي تَشكل بنية الواقع بشرائحه التعايشية والمقصود بها أن كل حالة لها خصائصها التي لم يتم الاستفادة منها إلا بتوفر سلوك إجباري يحقق الاستفادة من خصائص تلك الحالة وفق الزامية التأثير والأثر.
* شرطية الفعل وحاصله، ويقصد بها ربط كل فعل برد يتناسب مع الظروف المحيطة بذلك الفعل.
وتلك الركيزتين هما ما يحققان للفرد الكفاية الفهمية للأشياء، باعتبار الأشياء حاملاً لمعرفة مستقلة في ذاتها، وما يحيطها من ارتباطات وتمثيلات وظيفية.
ويمكن التفريق بين الاقتضاء والشرطية، بأن الاقتضاء هو حالة مؤقتة ترتبط بالماديات الظرفية، والارتباط هنا لا يعتمد على المقام الزمني بل الحالة المُقامة، وهو ما يجعل الاقتضاء دائم الحدوث كإستراتيجية توافقية بين الواقع والوعي. وهذا الحدوث المرتبط بواقع التوافق لا يعادل الاستدامة.
في حين أن الشرطية حالة متكررة لأنها ترتبط بطبيعة الإنسان وتُنتج معايير مدونة وعيه الإجرائي، وهي غالبًا لا يمكن إعادة تجذيرها لمحدودية البرمجة التمثيلية للفعل السلوكي وأثره، وتلك المحدودية البرمجية قد تُستغل لصناعة التطرف في مستوياته المختلفة.
خلاف الاقتضاء الذي يرتبط بالتغيير الحضاري لحياة الفرد أو الجماعة، بمعنى أنه لا يعتمد على أساس تجذيري لأنه يسعى إلى تحقيق مقام مؤقت لاعتماد النفعية والصلاحية والتوافقية.
وبتلك الركيزتين وعبر الكفايات الفهمية ومرفقاتها تُصمم الجماعة الجدولة الأولية لمفاهيمها للأشياء ودلالاتها ومظاهرها.
تلك الجدولة التي يمكن اعتبارها إحالة معرفية تُشجع على توسيع أفق التجريب وتسهم في تطوير التجربة الفكرية.
ووفق تلك الخارطة الأولية للسلوك المعرفي فإن الممارسة هي أسبق من المصطلح في الوجود.
لكن مع تطور الإنسان الذي كان يتحرك بدافعية التحسين وتجاوز المعوقات والتوسع في اكتشاف خصائص الطبيعة الكونية ومزيدًا من الارتباطات الوظيفية. مما يعني ضيق الجدولة الأولية للمفاهيم ودلالاتها وهذا الضيق استلزم تفكيكها وإعادة صياغتها بطريقة مقصودة، ومن هنا بدأ تاريخ «الاصطلاح».
يرتبط تاريخ الاصطلاح بتطور عقائد الجماعات وتنامي تجاربها الإدراكية وعقلنّة مسار العلليّة ومجاوراتها. وهذا التطور لآليات التفكير نقل الكفاية الفهمية إلى اتفاق على صيغة دلالية تهدف إلى إشاعة معنى معرفي، وتنظم إجرائي وتشريع قانوني. حتى أصبحت المصطلحات جزءًا من تاريخ المجتمعات والشعوب. والمصطلحات تتصف كغيرها من الكائنية الفكرية بدورة حياتية ترتبط صلاحيتها الزمنية بمعايير وظرفيات. والمصطلحات التي ترتبط بالظرفيات غالبًا ما تكون دورتها الحياتية مؤطرة بطبيعة الظرف وقوة دلالته وفاعلية ممثلاته. أما المصطلحات ذات الصلاحية المستدامة فغالبًا ما ترتبط بمعايير عدة منها؛ امتلاكها بنية مرنة للتمدد بالإضافة والتعديل، شمولية دلالاتها للوظائف المعرفية وإمكانية تطبيق قوالبها التمثيلية تحت أي مظلة معرفية.
وبهذا المسار تنتقل الخبرة المعرفية من درجة الكفاية الفهمية؛ الوعي التمثيلي للمفاهيم إلى مستوى القدرة على إنتاج خط معرفي لا يقتصر على الأشياء في مستواها التنفيذي أو التطبيقي كما في الكفاية الفهمية، إنما يمتد ذلك الخط المعرفي للأشياء الممثلة لمستوى التنظير البحت الذي لا يخضع لمسطرة القياس المباشر والأحادي، وهو ما ينقل الوعي من درجة التمثيل إلى مرتبة التأويل والثنائيات. وذلك الخط المعرفي هو ما يمثل خبرة فكرية تتطور في ضوئها وظيفة المصطلح من كونها معبّرًا عن خبرة معرفية مصاغة بالفهم الاقتضائي والفعل الاشتراطي إلى صانع خبرة معرفية متحكم في إدارة الكفايات الفهمية وتأسيس خطوط معرفية لقواعدها.
وهذه القدرة المتطورة للمصطلح التي تصبح بنية رئيسة في تأسيس العقل المعرفي هي التي تحوّل المصطلح إلى «معرفة استعمارية»؛ لأن ليس كل الشعوب تملك آليات صناعة المصطلح.
والعجز هنا لا يرتبط بالقدرة بل بالإمكانات وشروط تلك الصناعة، وأهم تلك الشروط الحرية الفكرية، وعلمانية العقل الجمعي وإخراج القيم المعنوية من حساب الدلالات، وتعدد مصادر التأويل بما يعني كسر مرآة الأحادية ومعادلاتها. وتلك الثلاثية الاشتراطية لإتمام صناعة المصطلح هي التي تحوله إلى «جدل معرفي» وحينًا يصبح «مصدر صراع بين الشعوب».
المصطلح «سلطة معرفية في ذاته» باعتباره رأس الهرم المعرفي وهي مكانة حاصل قوة رمزيته وفاعليتها في إنشاء الفلسفة المعرفية والنظريات العلمية وإحالاتها.
قد لا ينبني المصطلح على جدار أيديولوجي لكن فيما بعد يصبح في ذاته أيديولوجية مستقلة لأنها تفرض على الوعي توجهًا دلاليًا وتمثيليًا مقصودًا مقابل إزاحة مقصودة لجذره الفكري المكتسب بالاقتضاء والشرطية.
تلك الأيديولوجية هي التي تحوله إلى استعمار فكري عندما يحلق بعيدًا عن أفقه؛ لأنه يسعى إلى إزاحة خصوصية الفكر التراثي للأفق الجديدة، وفرض مدونة معرفية خارجة عن الكفايات الفهمية لتلك الخصوصية وبرمجياتها التمثيلية، وهو ما يدخل تلك الخصوصية في صراع مع المصطلح المعرفي.