د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
راق لي بريق الثقافة في عيون بلادي، وأيقنتُ أنه يمكننا الحصول على وضوح ثقافي ذي ثراء تعددي أوسع وأكمل من خلال استيعاب مضاعف للمشهد الثقافي الذي تتوق بلادنا إليه في رؤيتها العملاقة 2030، وفيما يختزنه العقل العربي السعودي من شوارد الفكر ونفائس الثقافة، وفيما نتوخاه أيضاً من مرابعنا في وادي عبقر، حيث الشعر الذي كان يُعيدُ شيئاً من الليونة إلى قسوة الحياة آنذاك، وأحسبنا اليوم نروم لقاء مع عباقرة الوادي لاستيلاد شعر يليق بحضارتنا الجديدة وبنمائها المتوهج، وقد استحضرني قول الشاعر علي بن الجهم في عهود الخلافة العباسية عندما تلذذ بالحضارة ورونقها في تلك الحقبة!؛ وقدكان قادماً من البادية مع كلبه وتيسه ودلوه الذين وصف بهم الخليفة المتوكل، ولكن ابن الجهم انقلب وتغير مزاجه فأبدع واعتلى! عندما امتزج بالحضارة:
(عيون المها بين الرُصافة والجسرِ
جلبنا الهوى من حيث أدري ولا أدري)
فلقد شاع في ذلك العصر العقل الجمعي المثقف وهذا ما نحتاجه حتماً في مسيرتنا اليوم؛ وفي انتقالنا الحضاري الاستثنائي وتحولنا التنموي الأجود، ولذلك لابد من صناعة الشغف بالمنتج الثقافي من خلال تنصيب الثقافة حكَمَا على جودة الحياة.. فوزارة الثقافة هي الأوحد بين وزارات الدولة التي لن يصنعها إلا الشغف الذي يسكن في نفوس أرباب الصناعة الثقافية؛ بمعنى أن الاحتراف مطلب لمن يقف على اختصاصات تلك الوزارة ولمن يُسرج خيول البدايات؛ ولمن ينسجُ برود المسير، ففضاءات المثقفين حتما هي أصواتهم الداخلية بوصفها موئل شاعر وكاتب وصحفي ومؤلف وناقد وروائي وقاص وتشكيلي ومترجم ومسرحي وسينمائي وناشر، فلم تعد الثقافة طللاً في الصحراء نهيمُ به ونتباكى عليه؛ بل أصبحت الثقافة أصداء حية لحياة الناس تنمو بكثافة مذهلة؛ فكل حضور فكري ثقافي حتما تُشرَعُ من خلاله نافذة ضوء، ليكون في بلادنا سلاسل معرفة ثقافية في كل اختصاص تلتقط الإبداع وتقدمه محلياً وخارجياً فيصبح من متكآتنا الوثيرة في مجال الثقافة يصحبه النقد الحر؛ والتقويم القويم والمراجعة المبصرة، ونتوق للاستمرار المتدفق للثقافة المنتقاة من الشوائب التي تحترم العقل ولا تلغيه؛ وتسهم في صناعة منابع التنمية وإثراء مصباتها؛ ونريدها ثقافة ممزوجة متواشجة {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ} وعند عقد ألوية البدايات تبرز هنالك حاجة ملحة إلى تحويل كثير من المنجز الثقافي إلى خطاب استفتاء وتقييم للتعرف على المكتسبات الفلسفية من ذلك المنجز وتطويره والامتاح منه.
كما نحتاج إلى أن ننقاش الفوارق بين الحرية وما نشاء!.. ونريد ثقافة يصنعها المال ولكنها غير ملزمة بجلب المال، ويلزم بناء الثقافة حضور كثيف لذاكرة الأمكنة وذاكرة الأسماء، مما يحتم على وزارة الثقافة القيام بعدة أدوار في ذات الوقت والحال لبناء القدرات الثقافية الوليدة؛ ورعاية جذور المبدعين؛ وإحياء مآثرهم، وتسخير الوعي الثقافي ليكون مركبا حياتياً في كل الشئون، وتشكيل منصة متينة ثابتة في بلاد العالم الشقيقة والصديقة عبر ملحقيات بلادنا الثقافية ليقرأوا خطابنا السعودي الأثير؛ ويستدلوا على خارطة الطريق نحو عقولنا وبلادنا وثقافتنا؛ ولا أرى المعارض المتنقلة ذات تأثير لإحداث المثاقفة المطلوبة مع العالم وإن كان لها وزن وذكريات قد انتهت! فالواقع اليوم يتطلب حضارة ثقافية تراكمية؛ فنأمل أن تكون مرجعياتنا الثقافية قادرة على نقل الفكر الثقافي وتهيئة المناخ لإسقاطه على الصورة الذهنية لمجتمعاتنا، حيث يستند إليه الاحتكام الأول في تقييم الشعوب عامة والإنسان المعاصر خاصة، فالبيئات الإنسانية المتخلفة تعطي مؤشرات أكيدة على إعوجاج المنجز الثقافي؛ وسطحية الإنتاج؛ وضحالة المقومات الداعمة لاستيطان الثقافة بشكلها الاجتماعي والمادي.. كما سوف تسعدُ الثقافة وتنمو حينما تكون للجوائز العربية والعالمية التي يتبارى خلالها مثقفو العالم منصة كبرى في بلادنا تحيطها وزارة الثقافة بتنظيمات تسهم في المشاركة الوافرة من رواد الثقافة والفنون في بلادنا في تلك الجوائز وتدعم ترشيحهم؛ وتقيّم منتجهم؛ وتدفع به إلى العالمية؛ وأن لا تكون مشاركاتنا فردية خجولة!!.. فالمثقفون لا يصنعون في صالات التدريب بل يملكون رؤى عميقة في داخلهم تستخلص بالود والحفز.
وتلك حُزَمٌ من دروب شتى لتلبي احتياجاً أزليّاً لحياة العقول، ولتؤسس لبناء الرأي السليم، وتفصل بين الأعمال المتهافتة الضعيفة التي باتت تزاحم المنتج القويم في كل منصات العرض الثقافي ومؤسساته؛ فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فلابد من متن ومتانة؛ ودعائم لتحفيز الفكر وذخائر مفضلة بدرجة عالية إذا ما صفتْ مواردها, وأُحسن إليها ممن يقود مكوناتها!.. فالثقافة والفكر هما الترياق والأمل لمناهضة العنف ونشر السلام والهدوء والوصول إلى جودة كل شيء جميل منحه الله للناس.