د. ناصر بن علي الموسى
تُعدُّ مشكلة البطالة بين خريجي وخريجات أقسام التربية الخاصة في الجامعات السعودية مشكلة حقيقية؛ إذ يكاد الناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي يجمعون على أن عدد هؤلاء الخريجين والخريجات يصل إلى أكثر من (17.000) خريج وخريجة، وهو عدد تراكمي؛ يرتفع بزيادة عدد المتخرجين والمتخرجات من الجامعات عامًا بعد آخر في ظل عدم استفادة وزارة التعليم من خدماتهم.
ولا شك في أن هذا هدرٌ تربوي كبير؛ فقد أنفقت الدولة - رعاها الله - بسخاء على برامجهم التعليمية، وبذلت الجامعات جهودًا كبيرة في سبيل إعدادهم، ثم يصبح مصيرهم إلى متاهات البطالة.
وتشير الأبحاث والدراسات إلى أن البطالة المتعلمة هي من أخطر أنواع البطالة، وأشدها تأثيرًا على استقرار المجتمعات وتقدُّمها ورُقيها.
ويسرُّني أن أستعرض معك أيها القارئ العزيز الخلفية التاريخية لهذا الموضوع، والأسباب الفعلية التي أدت إلى الوضع الراهن، والمقترحات التي تسهم - بإذن الله تعالى - في التغلب على هذه المشكلة في المستقبل.
تضطلع المملكة العربية السعودية بدور ريادي في مجال إعداد معلمي ومعلمات التربية الخاصة في المنطقة العربية؛ إذ يعد قسم التربية الخاصة بجامعة الملك سعود الذي بدأ يستقبل الطلاب والطالبات في العام الدراسي 1404 - 1405هـ هو أول قسم ينشأ على مستوى العالم العربي كله، وظل يحمل مشعل الريادة فترة طويلة من الزمن، ثم أخذت أقسام التربية الخاصة تتسع بشكل سريع جدًّا في الجامعات السعودية حتى وصل عددها عام 1437هـ إلى (27) قسمًا، ثم بدأت تتقلص - مع الأسف الشديد - بسبب عدم توظيف خريجيها وخريجاتها.
ويعود السبب في توسع الجامعات السعودية في افتتاح أقسام التربية الخاصة إلى عوامل عدة، من أهمها:
أولاً: العناية والرعاية والاهتمام والدعم الذي يحظى به الأشخاص ذوو الإعاقة من لدن قيادتنا الحكيمة. وقد تجسد هذا كله في إيجاد بيئات عمل جاذبة في مجال الإعاقة، يتوافر فيها حوافز مادية ومعنوية، تشجع الشباب والشابات على الانخراط في العمل بمجال الإعاقة؛ إذ يحصل المعلمون والمعلمات المتخصصون في التربية الخاصة على زيادة في رواتبهم، تبلغ (30 %) من رواتبهم الأساسية. ويحصل المعلمون والمعلمات غير المتخصصين في التربية الخاصة على زيادة في رواتبهم قدرها (20 %) إذا قاموا بتدريس الطلاب والطالبات ذوي الإعاقة. كما يحصل على هذه العلاوة منسوبو ومنسوبات التعليم العام الذين يتعاملون مع الطلاب والطالبات ذوي الإعاقة وفق الضوابط والمعايير المحددة لذلك.
ثانيًا: النمو الكمي والتطور النوعي اللذان شهدتهما التربية الخاصة في الفترة من عام 1417 إلى عام 1428هـ نتيجة للتوسع في تطبيق عملية الدمج التربوي، وتوظيف المفهوم الشامل للتربية الخاصة، وتبني استراتيجية جديدة في مجال تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة؛ وهو ما أدى إلى الحاجة الملحة إلى خدمات خريجي وخريجات أقسام التربية الخاصة الذين كانت الوزارة تتابعهم بغرض توظيفهم فور تخرجهم.
ثالثًا: الصفات والمزايا الإنسانية الحميدة التي غرسها ديننا الإسلامي الحنيف في قلوب أبناء وبنات هذا الوطن الغالي؛ كي تدفعهم إلى حب العمل في مجالات الإعاقة المختلفة.
وهذه العوامل وغيرها من الجوانب الإيجابية التي اتسمت بها التربية الخاصة، وخصوصًا في الفترة المشار إليها آنفًا، أدت إلى زيادة إقبال الطلاب والطالبات على الالتحاق بأقسام التربية الخاصة في الجامعات السعودية. وشجعت هذه الجامعات على التوسع في استحداث تلك الأقسام، وأسهمت بشكل فاعل في الارتقاء بمدخلات التربية الخاصة.
والسؤال التاريخي المهم هو: هل كان توسع الجامعات السعودية في افتتاح أقسام التربية الخاصة مبررًا؟!
والإجابة عن هذا السؤال بالتأكيد «نعم»؛ لقد كان هذا التوسع مبررًا في الماضي، وما زال مبررًا في الحاضر، بل سيظل مبررًا على مدى العشرين سنة القادمة؛ فتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة يواجه تحديًا كبيرًا، يتمثل في النسبة الكبيرة من الأطفال الذين هم في حاجة إلى خدمات التربية الخاصة؛ إذ تشير الإحصاءات العالمية إلى أن نحو (20 %) من إجمالي تلاميذ وتلميذات مدارس التعليم العام في أي بلد من بلدان العالم قد يحتاجون إلى خدمات التربية الخاصة. وتجسيدًا لذلك فإن الإحصاءات الصادرة في العام الدراسي 2015 - 2016 م عن المركز الوطني للإحصاءات التربوية في الولايات المتحدة الأمريكية توضح أن عدد التلاميذ والتلميذات الذين يستفيدون من خدمات التربية الخاصة بتلك البلاد في المرحلة العمرية من ثلاث إلى إحدى وعشرين سنة بموجب قانون تعليم الأفراد ذوي الإعاقات «Individuals with Disabilities Education Act» (IDEA) يبلغ (6.700.000) تلميذ وتلميذة. وهذا العدد يشكل نسبة (13 %) من إجمالي التلاميذ والتلميذات الأمريكيين الملتحقين بمدارس التعليم العام في ذلك العام الدراسي.
وفي المقابل فإنه يُعتقد أن التلاميذ والتلميذات الذين يستفيدون من خدمات التربية الخاصة في العالم العربي يشكلون نسبة ضئيلة جدًّا لا تتجاوز (1 %) من إجمالي تلاميذ وتلميذات مدارس التعليم العام. وتشير الإحصاءات العربية إلى أن نسبة التلاميذ والتلميذات الذين يستفيدون من خدمات التربية الخاصة لا تتجاوز (5 %) من إجمالي التلاميذ والتلميذات المستهدفين بتلك الخدمات.
وعلى الرغم من التوسع الكبير في قطاع التربية الخاصة بالمملكة إلا أن أعداد التلاميذ والتلميذات المستفيدين من خدماتها تقدر بنحو (120.000) تلميذ وتلميذة.
وهذا يعني أن التلاميذ والتلميذات الذين يستفيدون من خدمات التربية الخاصة في المملكة حاليًا يشكلون نسبة (2.2 %) تقريبًا من إجمالي التلاميذ والتلميذات المسجلين بمدارس التعليم العام الذين يبلغ عددهم (5.500.000) تلميذ وتلميذة تقريبًا حسب آخر الإحصاءات الصادرة عن مركز الحاسب والمعلومات بوزارة التعليم، ويشكلون نسبة (11 %) من إجمالي التلاميذ والتلميذات المستهدفين بخدمات التربية الخاصة، الذين يقدر عددهم بنحو (1.100.000) تلميذ وتلميذة حسب النسبة العالمية المشار إليها آنفًا، التي تعد نتاجًا للإحصاءات المبنية على تعريفات الفئات الخاصة بتفريعاتها المختلفة.
والحديث هنا لا يعني بالضرورة الفئات التقليدية المعروفة، مثل المكفوفين، والصم، وذوي الإعاقة العقلية، وإنما المقصود فئات أخرى تشمل التلاميذ الموهوبين والمتفوقين عقليًّا، وذوي صعوبات التعلم، وذوي اضطراب التوحد، وذوي الاضطرابات التواصلية، وذوي الاضطرابات السلوكية والانفعالية، وذوي فرط الحركة وتشتت الانتباه، وضعاف البصر، وضعاف السمع، وغيرهم من ذوي الإعاقات الخفية الخفيفة، والفئات الحدية بأنواعها المختلفة.
وتشكل هذه الفئات الغالبية العظمى من فئات التربية الخاصة؛ إذ تزيد نسبة أفرادها على (80 %) من إجمالي أفراد ذوي الاحتياجات الخاصة. والكثير من هؤلاء التلاميذ والتلميذات ملتحقون بمدارس التعليم العام، ويستفيدون من خدماتها التربوية، لكنهم في حاجة ماسة إلى خدمات التربية الخاصة؛ إذ بدونها قد يصبحون مصدرًا من مصادر الرسوب والتسرب، أو حتى قد يصبح بعضهم مصدرًا من مصادر الانحراف النفسي والاجتماعي الذي يعود بالضرر عليهم وعلى أسرهم ومجتمعهم.
وباستعراض هذه الأرقام، التي هي أبلغ من لغة الكلام، يظهر - بوضوح - أن هناك أعدادًا كبيرة جدًّا من الطلاب والطالبات الذين يستفيدون من خدمات مدارس التعليم العام، لكنهم لا يستفيدون من خدمات التربية الخاصة. وفي المقابل فإنه يوجد معلمون ومعلمات متخصصون في التربية الخاصة ينتظرون فرص التوظيف على أحرّ من الجمر.
فيا سبحان الله، كيف نشأت هذه المفارقة العجيبة؟! ومَن الذي تسبب في حدوثها؟!
لا شك في أن وزارة التعليم تتحمل الجزء الأكبر من هذه المشكلة؛ فقد دأبت في الفترة الماضية على القول بأنه لا يوجد لديها احتياج لخريجي وخريجات التربية الخاصة، وهي بذلك لا تكذب، لكنها - مع الأسف الشديد - لم تستوعب؛ فهي لا تكذب؛ إذ لا يوجد لديها احتياج لهؤلاء الخريجين والخريجات في المسارات التقليدية التي قد تشبعت بالفعل، وهي لم تستوعب بشكل جيد المفهوم الشامل للتربية الخاصة الذي يقتضي التوسع في افتتاح المزيد من برامج التربية الخاصة في مدارس التعليم العام؛ لتشمل الفئات كافة التي تحتاج إلى خدمات التربية الخاصة.
ولا يمكن أن تُعفى الجامعات من تحمُّل جزء من هذه المسؤولية؛ إذ ظلت تركز في أقسام التربية الخاصة على المسارات التقليدية، ولم تُعنَ كثيرًا بالتوسع في استحداث مسارات جديدة يتطلبها الميدان التربوي، على الرغم من كثرة المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية وورش العمل التي تطالبها بذلك.
وللتغلب على مشكلة القصور في خدمات التربية الخاصة، ومعالجة مشكلة البطالة لدى خريجي وخريجات التربية الخاصة، فإنني أتقدم لوزارة التعليم بالمقترحين الآتيين: الأول أن تقوم الوزارة - ممثلة في الإدارة العامة للتربية الخاصة - بإعادة العمل باستراتيجية التربية الخاصة التي تبنتها الوزارة عام 1417هـ، مع ضرورة تحديثها وتطويرها بما ينسجم مع أهداف رؤية المملكة (2030) وبرامجها التحولية، أو تبني استراتيجية جديدة تحقق الهدف ذاته، وهو التوسع في افتتاح برامج التربية الخاصة في مدارس التعليم العام.
أما المقترح الثاني - وهو مكمِّل ومتمم للمقترح الأول - فهو أن تقوم الوزارة بتوظيف جميع خريجي وخريجات التربية الخاصة الذين هم على قوائم الانتظار، وتنطبق عليهم شروط التعيين، ومن ثم إلحاق الذين يحتاجون منهم إلى إعادة تأهيل ببرامج دبلومات مهنية عالية لمدة عام دراسي واحد، تنشأ في أقسام التربية الخاصة من خلال التنسيق بين الوزارة والجامعات، ويتم إعادة تأهيلهم بما يؤدي إلى تحويلهم من المسارات التقليدية إلى المسارات الجديدة التي يحتاج إليها الميدان التربوي.
وفي الختام، لا يفوتني أن أشيد بالخطوة الموفقة التي أقدمت عليها الوزارة بشأن التوسع في برامج الدراسات العليا بأقسام التربية الخاصة في الجامعات السعودية. كما لا يفوتني أن أؤكد أمرًا غاية في الأهمية، هو أن تطوير برامج التربية الخاصة والتوسع فيها في مدارس التعليم العام بجميع أنحاء المملكة يعد من أهم الأدوات التي يمكن توظيفها لإصلاح التعليم العام؛ إذ إن من شأن ذلك أن يرقى بمستوى الكفاءة الداخلية للتعليم العام؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تحسين مخرجاته.