د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** منذ ثلاثة أشهر قرر مقاطعةَ كلِّ محطات البث المرئي كي لا يرى نشرة أخبار أو مباراة كرة أو مسلسلًا عربيًا أو برنامجًا فنيًا أو حفلة صاخبة؛ فقد سئم رتابتها وتراتبيتها وجدلها وما حولها، ومثلما عزم يومًا على الخروج من بعض المواقع الرقمية ولم يعد فقد رأى في هذه ضجيجًا أشدّ، وأيقن أن لديه مساحة وقتٍ تستحق رفيقًا أو رفقاء؛ أكانوا كتبًا أم شخوصًا أم خلوة ذات أم كتابة نص أم زاوية مقهىً عتيق، وصار تواصله محصورًا بمواجز ما يصله عن طريق أصفيائه دون أن يدخل في تفاصيلها، وربما حذف ماحقُّه الاحتفاء، ولولا قيمة من يود لألغى ما تبقى من تلك الوسائط.
** لم يشكُ من جهلٍ بما يدور؛ فقد كفاه زمنٌ سابَقَ فيه وسبق، وآن أن يُظله زمنٌ يتساوق فيه برضًا تام مع الجهل والتجاهل والغفلة والتغافل غير عابئٍ بما يموج في العالَم من اضطراباتٍ ومتغيرات، ولا تفسير منطقيًا لديه سوى أنها عزلةٌ اختياريةٌ عن أحداث اللحظة؛ فقد ملَّ وأملّ، وبالغ فما بلغ، ووعى تشظيَ لبنان أكثر من اللبنانيين، وانتخابات أميركا فوق ما يعرف الأميركيون، وصمود كوبا كما لا يدَّعي الكوبيون، وكان في جماعته قوميون زايدوا على «الحصري»، وبعثبون تجاوزوا «عفلق»، وإسلامويون تخطوا «البنا»، وعقلانيون آمن عندهم «أدهم»؛ فماذا وجد منهم أو معهم؟ بعضَ خواء ولا مزيد.
** وفي الرياضة تتكرر صورٌ أسوأ؛ فما الذي تحقق من بحِّ الحناجر ولجاج المنابر ومناسيب التوتر، وأين الناتجُ من متابعة الجولات وحضور المباريات؟ وماذا عن آثام السباب وآثار الصعاب وإحباط الصحاب؟ وهل ينسى أنه كان يأتي بكتابه الجامعي وقت الاختبارات انتظارًا لفتح الملعب فيذاكر على الرصيف، ويعجب من نفسه كيف أهدر نفيسه في ملاحقة كرة داخل دُوار اللجاج ودوائر الاحتجاج.
** ويجيء السؤال عن بدائله، وإجابته -كما وعاها في هذه التجربة التي يتمنى أن تمتد- كتابٌ هجره فانتظره، وفيلمٌ معولمٌ علم به، ومحاضرات لم تحتف بها أندية ولا جمعيات فاستزاد واستفاد وزاد فأفاد.
** والمؤدى بعد هذا كلِّه أنْ ليس مهمًا اختزانُ تجربةٍ نظنّها ذات بال فنكتشف عقمَها ونهمل أخرى فنلمس عمقَها؛ إذ العمر تجارب، والحياة تموجات وتبدلات، وأحكام ما بعد منتصف العمر أصدق وأوثق، وحِكمُ الكهول والشيوخ أوفى وأصفى.
** صرنا -أو ثللٌ فينا- مرتهنين لقيودٍ سرقت أوقاتَنا فتجمدنا في مساراتٍ لا تسير، وحان الإعتاق والانعتاق باقتناع وامتناع لا ابتداع ولا اتّباع كي لا نأتزر بوسم ولا نأتسر لموسم فنكون كمن عناهم شاعر البؤس «محمود أبو الوفا» 1901-1979م:
** أريدُ، وما عسى تُجدي أريدُ
على من ليس يملك ما يُريدُ
فللقيود لذةُ التردد
وللحياةِ بهجة التجدد.
** الإرادةُ تمرد الذات على الذات.