معنى كلمة طبيب لا يخفى على أحد. أما كلمة «معلم» فتحمل معاني عدة، كل منها يعتمد على سياق استخدام الكلمة، وكذلك - وهو الأهم - المجتمع الذي تقال فيه هذه الكلمة.
ففي المجتمع السعودي كلمة «معلم» تعني في الأغلب الأعم المدرس. ولو أنها تسـتخدم أحيانًا بالمفهوم المصري. ففي اللهجة العامية لشعب النيل الحبيب لا تستخدم كلمة «معلم» للدلالة على المدرس، ولكن تستخدم بسكون الميم «مْعلم» للدلالة على كون الموصوف بكلمة «معلم» يتمتع بخصائص فريدة في شـخصه أو مهنته، تجعله منفردًا متفردًا بهذا الوصف التضخيمي القيادي لشـخصه وشـخصيته. فكثيرًا ما نشاهد في الأفلام والمسلسلات المصرية إطلاق كلمة «مْعلم» على شخص يكون دوره قياديًّا ومحوريًّا في ذلك الفيلم أو المسلسل.
وهذا هو المعنى الذي يصف طبيبنا الاستشاري وكاتبنا الرائع الدكتور جاسر بن عبدالله الحربش: «مْعلم».
فالطب علم ومهنة، تعلمها جاسر في ألمانيا، وأبدع فيها بعد عودته للمملكة، وغيره كثيرون. أما «الكتابة» ونوعية المواضيع التي يكتب عنها الدكتور جاسر فهي موهبة، وُلدت مع أبي عدي، وصقلتها قراءاته الغزيرة في سـن مبكرة، وخبراته العملية، وكذلك معايشته للمجتمع الألماني المتقدم جدًّا في أولى سنوات شبابه أثناء دراسة الطب في ألمانيا، التي تزامنت مع أهم فترة زمنية ثقافية سياسية عربية، ألا وهي حقبة الستينيات الميلادية، بإيجابياتها ونكسـاتها، التي يأتي على قمتها نكسـة 5 يونيو 1967م.
من المؤكد أن كاتبنا الرائع، وبُعيد وصوله ألمانيا قادمًا من قرية سعودية صغيرة بدون كهرباء أو مياه منزلية، كان يحلم بوطن يتقدم دول العالم على غرار الدولة التي سـتعلِّمه ليس فقط علم ومهنة الطب، بل تعلمه أن تقدم وتطور المجتمعات والدول إنما يقوم على ركن واحد، ألا وهو التعليم.
هذه الكلمة أو الركن (التعليم) انحفرت في عقل وقلب جاسر الطبيب الكاتب، والكاتب الطبيب.
العروبة وشؤونها وشجونها ووحدتها وتوحدها لم تغب عن كتابات جاسر، إما تصريحًا أو تلميحًا. كيف لا يكون هذا الشأن والمصير الواحد لأمة تجمعها لغة وثقافة واحدة، وتتشابه طبيعة مجتمعاتها من الفرات إلى المحيط الأطلسي بحكم رابط الدين واللغة والحضارة!؟ هذا الهم العربي العروبي الإسلامي لكاتبنا جاسر الحربش كان شغله الشاغل في كثير من كتاباته، بل كان الوجه الثاني من جنيه ذهب 24 قيراطًا، هو «زاوية جاسر الحربش» الصحفية التي اختار لها اسما يعكس طموحه اللامحدود في مجتمعه السعودي والعربي: «إلى الأمام». والوجه الأول لهذا «الجنيه» كان - ولا يزال - الهم الوطني السعودي بجميع تقاطعاته.
أول مرة قرأت لكاتبنا الرائع «أبي عدي» كان في مجلة اليمامة. توقف بعدها طائعًا لسنوات، ثم عاد فارسًا في أعمدة الرأي لصحيفة الجزيرة لعشر سنوات في زاوية أسماها «إلى الأمام». وفي أحد صباحات شهر يونيو المشؤوم (هزيمة 5 يونيو 1967م) فاجأ فارسنا قراءه بإعلانه التوقُّف عن الكتابة. ولحسن حظ القارئ السعودي أن فارسه الحربش لم يستطع قبول حياة الصمت أمام العالم المتغير، خاصة منطقتنا الخليجية والعربية، وضرورة تنوير النشء ولو بإضاءة شمعة صغيرة؛ إذ استل قلمه، وعاد للكتابة في صحيفة الحياة بعدد محدود من المقالات، قبل أن يعود بعدها إلى محبوبته القديمة الجديدة «مجلة اليمامة». ويا له من عود حميد وبشرى جميلة لقرائه ومتابعيه، وقبل ذلك لمجلة اليمامة الغالية.
فاليوم يتنقل القارئ بين الصحف المحلية ورقيًّا أو عبر الإنترنت باحثًا عن مقال يلفت نظره، ويثير تساؤلاته، ويحفزه للتفكير والتحليل، فلا يجد إلا «كبيضة الديك» مرة في الشهر. أما مقالات فارسنا «أبي عدي» فهي «كاملة الدسم»؛ تحتاج إلى القراءة أكثر من مرة لاستيعابها «وهضمها»؛ وذلك لغزارة طرحه وتحليله، وقبل ذلك لاستشرافه أمورًا وقضايا جوهرية نادرًا ما يتطرق لها غيره من الكتّاب، فضلاً عن تفرده بأسلوب كتابي جميل، يجبر القارئ على «إدمان» متابعة كتاباته.
كتابات جاسر الحربش في معظمها لا تتحدث عن مشكلة آنية، سواء على مستوى المدينة أو المجتمع أو الوطن، كما هي الحال في غالبية مقالات زوايا الرأي في صحفنا المحلية، ولكنها تطرح قضايا على مستوى المجتمع والكيان السعودي كله، وأحيانًا العربي والإسلامي؛ وبالتالي تبقى «فترة صلاحية» مقالاته طويلة بسـبب حيوية ومفصلية مواضيعها التي لا يمكن معالجتها وعلاجها في شهر أو سنة أو حتى عقد من الزمن كما هي الحال في كتاباته العديدة عن التعليم في المملكة والعالم العربي.
خلاصة القول: إن الطبيب الاستشاري والكاتب الرائع جاسر الحربش ظاهرة نادرة في الصحافة الثقافية التثقيفية السعودية والعربية.. فكما هو يحمل هموم مرضاه في عيادته هو يحمل هموم مجتمعه السعودي وقومه العربي العروبي وأمته الإسلامية؛ وهذا والله حِمل ثقيل على أي إنسان؛ فجزاه الله عنا خير الجزاء لقاء تكبده عناء الكتابة الصحفية المنتظمة والمضنية؛ لينير الطريق للشباب والشـيوخ، ويشـحذ الهمم للتفكر والتدبر في حاضرنا ومسـتقبلنا السعودي والعربي والإسلامي.
** **
- د. محمد القنيبط