د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
لو لم يكن الدكتور جاسر الحربش طبيبًا لكان أديبًا بما رزقه من مواهب وملكات هي من مقومات الأديب بمعناه العام؛ ولكن عناية الله وجهته إلى الطب فلم تدركه حرفة الأدب.
بيني وبين أبي عدي مشتركات؛ فنحن أدركنا حياة البسطاء المستوري الحال، فأدركنا لذة النعمة التي أفاء الله بها علينا، وما حرمنا كنز القناعة، كلانا درس حتى المرحلة المتوسطة في القصيم، هو في الرس وأنا في المذنب، وكلانا درس الثانوية في مدرسة اليمامة الثانوية في حي المربع، وكان من أرقى أحياء الرياض في ذلك الوقت، وكلانا درس في القسم العلمي؛ وهو استكمل مشواره العلمي ليكون طبيبًا، أما أنا فاخترت كلية الآداب، تربى في بيت أخيه الأكبر سليمان وتربيت في بيت أخي الأكبر أبي سليمان.
ولاختلاف طريقينا ما عرفته، وإن كان في وقت من الأوقات في جامعة الملك سعود كلية الطب.
وفي يوم من الأيام وجدت ابني أوسًا يحدثني عن والد زميله عدي، وكيف وجده قارئًا متميزًا مهتمًّا بالعلوم العربية والأدب، وأنّ لديه مكتبة عامرة بالكتب الثقافية، واقترح عليّ أن أهديه بعضًا من كتبي، فسرّني ذلك سرورًا عظيمًا؛ لأن كتب التخصص من نحو وصرف مرغوب عنها. وأنهى أوس دراسته الجامعية وعين مع زميله عدي معيدين في الجامعة، ولما كنّا ندرك أنا ووالدته أنه مقبل على السفر للدراسات العليا؛ ولأنه بلغ من العمر والنضج ما يؤهله لتكوين أسرة بدأنا نقترح عليه أن نخطب له، وكلما اقترحنا واحدة صرفنا عنها بحجة أو بأخرى، فلما أدرك أنا استيأسنا من أمره، وأنه حيّرنا فاجأنا بأنه تخيّر الأسرة التي يريد أن يصهر إليها، فطلب منا أن نخطب أخت زميله ابنة جاسر الحربش، وهكذا استأذنت من الدكتور بالزيارة، ويومها وجدت حفاوته بي حفاوة من يعرفني سنوات طويلة، وكان حديثنا في معظمه حديث علم وأدب وهموم تعليم، ومنذ ذلك اليوم بدأت معرفتي بالدكتور جاسر الحربش عن قرب، منذ أول لقاء رأيت كيف يثري المجلس بثقافته العريضة المتنوعة، وكيف يحسن إدارة الحديث بين الجالسين.
ولما زرت أختي لأبشرها بخطبة أوس وكانت مهتمة بذلك راحت تسرد علي أخبار زياراتها القديمة لعيادة الدكتور الحربش التي ذاع صيتها واشتهرت بين الناس، ووصفت لي كيف يجمع الدكتور جاسر إلى مهارة الطبيب حسن معاملته مرضاه وروح الدعابة التي تخفف من هيبة الطبيب، كانت تشتكي معدتها، فسألها عن أكل الفلفل، فأنكرت، قالت: لا آكل الفلفل، فالتفت إلى زوجها وقال: اسمعْها تقول لا آكل الفلفل، ولم تحلف بالله أنها لا تأكل الفلفل. ومما سمعته منها أنه سألها لما قرأ اسمها: هل لكم صلة بأوس إبراهيم الشمسان؟ فقالت أنا عمته فهو ابن أخي، فأثنى عليه ثناءًا عاطرًا، وقال إن أوسًا صديق ابنه عدي.
ترك الدكتور جاسر العيادة ليتخفف من أعباء إدارتها وعنت الالتزام التام بشؤونها، وعاد هذا الأمر عليه بالخير أن وجد مزيد وقت للقراءة التي هي من أهم هواياته التي يرضي بها نهمه لمعرفة التاريخ والجغرافيا والاجتماع والأدب والسياسة والفكر والفلسفة، وأسعده إتقانه للغة الألمانية والإنجليزية لينهل من الثقافة الغربية ما يضافر به ثقافته العربية، ثقف من الألمان الدقة والانضباط والصرامة من غير أن يجور ذلك على ثقافته العربية التي ظل وفيًّا لها كل الوفاء، فلم تستهوه الفنون الموسيقية الغربية بل ظل يطربه محمد عبده بأغانيه الشعبية القديمة، وهو من المؤمنين بالعروبة إيمانًا حقيقيًا لا إيمان شعارات مرددة، ظل محبًا للغته العربية مدركًا لأهمية تطويرها والحفاظ عليها، لا تسمعه في حديثه يخلط بين العربية وغيرها بل يتحدث بها خالصة بينة فصيحة.
ومن المشتركات بيننا أنا نكتب في صحيفة الجزيرة، ومن يقرأ له يجد الثقافة العريضة التي يستند إليها والفكر الثاقب الذي يصدر عنه، قد لا يعلم من يقرأ له أنه الطبيب جاسر الحربش لما يراه من تمكن في التحليل والاستنباط وإبداء الرأي الحر الجريء.
الصراحة سمة من سماته عرفتها حين اتصلت حياتي بحياته، وهي صراحة ربما تزعج بعض الناس؛ ولكنها تريح آخر الأمر لما تتصف به من الصواب وتحمله من الخير وحسن التدبير وجمال المآل. ولغزارة ثقافته وسعة طيفها لم يحصر نفسه في تخصصه وإن كان له في ذلك كتابات مشهودة، وأما نصائحه الطبية فقد وجدت اهتمامًا منه في مقالاته الصحافية؛ إذ تناقلتها وسائط التواصل الاجتماعي، تراه يكتب في السياسة والاجتماع وعينه على ما يقلق المجتمع ويهم أبناء بلده، فتراه يحلل تحليل الخبير ويصف العلاج وصف الطبيب. ولا تقل مشاركاته المسموعة والمرئية عن كتاباته عمقًا وإحاطة ووضوح رأي وجلاء بصيرة.
ومن المشتركات بيننا شهادتنا مجلس مركز حمد الجاسر الثقافي، والمشاركة في ندواته إلقاءًا وإدارة، سمعت مداخلاته الكثيرة وأدهشني كثيرًا أنه يداخل في موضوعات توهمت أنها بعيدة عن تخصصه أو اهتمامه، فإذا تحدث ناقش من الأمور ما لم يلتفت إليه غيره، وأما في الحديث في اللغة فإنه، وإن لم يكن من المتخصصين بالعلوم العربية، يعجبك إتقانه إياها وتمكنه منها تمكنًا أراه يفوق كثيرًا من المتخصصين، حتى قلت يومًا: لا أطمع من طلاب التخصص عندنا بأكثر من لغة الدكتور جاسر الحربش.
لهذا الرجل اقتدار يجعله قدوة في رعاية أسرته وبناء شخصية أبنائه ورعاية بيته؛ إذ نجح الدكتور جاسر في بناء أسرة علمية جمعت الأدب والطب، فأبناؤه الثلاثة عدي وأوس ومعن أطباء، ويجمع عدي كوالده بين الطب والأدب؛ إذ فازت مجموعته القصصية (حكاية الصبي الذي رأى النوم) بجائزة كتاب العام برعاية نادي الرياض الأدبي وبنك الرياض، وأما بناته الثلاث فتخرجن في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.
وآخر ما أختم به من المشتركات ذكر ما أنعم الله علينا به من الأحفاد (ميس وإبراهيم وخالد وسارة) أبناء أوس إبراهيم الشمسان ورغد جاسر الحربش، وفي كل أسبوع أسعد بزيارتهم أول النهار يملؤون بيتي بهجة وسعادة ثم يمضون إلى بيت بابا جاسر كما يقول الصغار الأبرياء فيقضون سحابة يومهم مستمتعين برعايته وحفاوته وحبه.
تحية وتقدير لأخي جاسر الذي أنعم الله علي بمعرفته. وألف شكر للمجلة الثقافية والقائمين عليها الدكتور إبراهيم التركي وزملائه لاحتفائهم بهذا الرجل العظيم.