د. عبدالرحمن بن حمد الحميضي
لمحة تاريخية
بدأ تعليم الأطفال في ألمانيا في القرون الوسطى في أديرة رهبان الكنيسة الكاثوليكية الرومية وكان مقتصراً على أبناء النبلاء وعلى الأولاد المرشحين للدخول في إحدى الرهبنات والالتحاق بالسلك الكهنوتي الكنسي، وكان معظمهم من أبناء النبلاء أيضاً الذين لن يتمكنوا من وراثة ألقاب وإقطاعيات آبائهم، التي كانت من حق الولد الذكر البكر فقط.كما كان بعض النبلاء يعلمون أطفالهم في قصورهم على أيدي معلمين خاصين يستأجرونهم لهذا الغرض، وكان التعليم التقليدي يشتمل على تعلم اللغة اللاتينية وبعض مبادئ الحساب، وفي مراحله المتقدمة تضاف اللغة اليونانية لبرنامج التعليم، إضافة إلى معلومات لاهوتية أساسية. كما كان بعض كهنة الكنائس يتولون تعليم أولاد العامة في دور رعوياتهم الملحقة بكنيسة البلدة أو القرية، ومنذ نهاية القرون الوسطى ومع حركة الإصلاح الديني انتشرت مدارس ابتدائية تابعة للكنائس الإصلاحية في بلدات وقرى ألمانيا، كما أخذت بعض الإدارات البلدية تنشئ مدارس تابعة لها أيضاً، ثم ظهر نمط جديد من المدارس عندما عمدت طبقة النبلاء إلى تأسيس (مدارس الفرسان) التي كانت مخصصة في البداية لتعليم أبناء النبلاء، ثم أصبحت قرابة نهاية القرن الثامن عشر متاحة لأبناء الطبقة المتوسطة العالية (البرجوازية).
من جهة أخرى قامت بعض الروابط المهنية بإنشاء (مدارس مهنية) لتعلم فيها مهنها وحرفها، كما أنشأت مدارس لتخريج الكتبة والمحاسبين (Kameralistik) للعمل في الدوائر الكنسية، والبلدية، وبلاطات الأمراء الألمان.
ومع انطلاق عصر التنوير بدأ ظهور أنماط جديدة من المدارس أدخلت في مناهجها مزيداً من مادة الرياضيات ومبادئ الميكانيك ودروس الأشياء، باعتبارها مواد ضرورية للتعامل مع الواقع المتغير، هذا إضافة إلى مادة الأحياء لفهم الطبيعة، وفي عام 1707 أسس راعي الكنيسة البروتستانتية في مدينة هاله (Halle) في إمارة ساكسن، واسمه كريستوف سيملر مدرسة قلص فيها حجم المواد اللغوية أسماها «المدرسة الرياضية والميكانيكية الواقعية – Mathematische und Mechanische Realschule»، آخذاً في ذلك واقع الحال بعين الاعتبار، ومن هنا جاءت صفة الواقعية لهذه المدرسة (Realschule). وفي عام 1747 أسس عالم اللاهوت البروتستانتي يوهان يوليوس هيكر في مدينة برلين مدرسة فيها صفوف تطبق مناهج تعليمية مختلفة بحيث يركز كل صف على تعليم مواد يستفيد منها التلميذ لدى تعلمه ومزاولته لحرفة معينة في المستقبل، أسماها «المدرسة الاقتصادية الرياضية الواقعية?konomisch-Mathematischen Realschule» وألحق بها حديقة مدرسية، ثم أسس فيها عام 1748 أول معهد لتخريج المعلمين في مملكة بروسيا أسماه « ندوة المعلمين البروسيةـ Das preuische Lehrerseminar»، ومن هنا يعتبر هيكر المؤسس الحقيقي للمدرسة الواقعية ذات التوجه العملي.
بدأت مملكة بروسيا (وكانت في ذلك الوقت أهم وأقوى الإمارات الألمانية، وقد توّج ملكها فيما بعد إمبراطوراً على ألمانيا بعد توحيدها عقب انتصار بروسيا على فرنسا عام 1870م) بفرض التعليم المدرسي الإلزامي لجميع الذكور اعتبارا من عام 1763م، وكان الإلزام يشمل المرحلة الابتدائية فقط.
واعتباراً من عام 1832 أصبح بإمكان خريجي المدارس الواقعية (Realschulen) في مملكة بروسيا تقلد الوظائف المتوسطة في السلك الوظيفي البروسي.
ثم تتابع تطوير التعليم المدرسي في الممالك والإمارات الألمانية وأسست المدارس العالية بعد مرحلة المدارس الواقعية وسميت (Gymnasium) تيمنا بمعاهد التربية البدنية والفكرية التي كانت قائمة في الحضارة اليونانية ثم الرومانية القديمة، وأصبحت شهادات إنهائها تسمى (Abitur) وهي كلمة مشتقة من اللاتينية وتعني المغادرة، أي مغادرة التعليم المدرسي بعد إنهائه، واعتباراً من عام 1834 أصبح الحصول على شهادة الأبيتور شرطاً للالتحاق بالدراسة الجامعية في مملكة بروسيا. وعام 1893م، أسست في مدينة كارلسروهه في دوقية بادن الكبرى أول مدرسة عالية (Gymnasium) للبنات، وحيث إن المدارس العالية لم تكن موحدة المناهج، فبعضها يركز على المواد الإنسانية، خاصة منها اللغتين القديمتين اليونانية واللاتينية، وأخرى تركز على المواد الرياضية والطبيعية الواقعية، وثالثة تركز على المواد الاقتصادية واللغات الحديثة، فكانت شهاداتها تؤهل حامليها للالتحاق بالدراسات الجامعية ذات العلاقة بمناهجها فقط، غير أنه اعتباراً من عام 1900م أصبحت شهادات الأبيتور بمجالاتها كافة متكافئة وتؤهل حاملها للالتحاق بأية دراسة جامعة يريدها.
وخلال عهد الجمهورية الأولى (جمهورية وايمار) 1918ـ 1938، ثم في عهد السلطة النازية 1933ـ 1945، أدخلت تعديلات متعددة على نظام التعليم المدرسي في ألمانيا لا يتسع المجال لشرحها في هذا المقال.
نظام التعليم العام الألماني الحالي
حيث إن جمهورية ألمانيا الحالية دولة اتحادية مكونة من 16 ولاية لكل منها برلمانها المنتخب، وحكومتها الخاصة التي يرأسها رئيس وزراء الولاية، وتتمتع كل واحدة منها بصلاحيات إدارية واسعة، فإن التعليم شأن ولائي وليس اتحادياً ويشرف على العملية التعليمية بجوانبها كافة وزير معارف الولاية، ولذلك فإن المراحل التعليمية ومسمياتها ومددها مختلفة أيضاً، لذا سيتناول الشرح فيما يلي الأعم الأغلب المشترك فيما بينها، مع الإشارة إلى خصوصيات بعض الولايات ما أمكن ذلك.
نظام التعليم الألماني مرتب وفقاً لهيكل تراتبي شاقولي من أسفل إلى أعلى ويشتمل على أربع مراحل دراسية تكون المراحل الثلاث الأولى منها النظام المدرسي الألماني، وتمهيداً لشرح وتفصيل هذا النظام التعليمي ندرج فيما يلي بعض المعطيات الإحصائية:
عدد مدارس التعليم العام 2017/ 2018
عدد التلاميذ
المدارس الأساسية (الابتدائية): 15.400 2.796.399
المدارس الرئيسية: 2.344 387.395
المدارس الواقعية: 1.940 816.088
المدارس المشتركة الشاملة: 3.099 999.522
المدارس الثانوية: 3.118 2.225.768
أنماط مدرسية أخرى: 2.865 1.124.828
إجمالي عدد مدارس التعليم العام: 28.765
إجمالي عدد التلاميذ في مدارس التعليم العام 2017/ 2018: 8.500.000
إجمالي عدد المعلمين في مجال التعليم العام: 754.726
عدد مدارس التعليم الحرفي والمهني - عدد التلاميذ
عدد المدارس لمختلف المستويات والمهن: 8.789 2.496.954
إجمالي عدد المعلمين في مجال التعليم الحرفي والمهني (الفني): 125.000
إجمالي عدد مدارس التعليم العام والتعليم المهني (الفني) 37.554
إجمالي عدد التلاميذ بمدارس التعليم العام والمهني (الفني): 10.846.954
إجمالي عدد المعلمين في مدارس التعليم العام والمهني (الفني): 851.754
أ) المرحلة الأولية (الابتدائية)
وتشتمل على المدرسة الأساسية Grundschule ومدتها في معظم الولايات 4 سنوات، ويلتحق بها الطفل بعد أن يتم السنة السادسة من عمره قبل يوم 30 يونيو من العام الذي سيلتحق فيه بالمدرسة. غير أن مدتها في بعض الولايات مثل ولايتي برلين، وبراندينبورغ، 6 سنوات، وتعتبر السنتان الخامسة والسادسة توجيهية وتحتسب فيما بعد من ضمن سنوات.
المرحلة الثانوية الأولى، وقد تشتمل المدرسة الأساسية على برامج تجريبية، وصفوف تعليم سريع للمتفوقين. وحيث إن خبراء التربية يرون أن الأطفال في هذه السن المبكرة لا ينبغي أن يخضعوا إلى ضغط التقديرات الرقمية، لذا تتبع أغلب الولايات في أول سنتين مدرسيتين نظام تقييم الأداء التحريري، ويترفع التلاميذ عادة من الصف الأول إلى الثاني ثم إلى الثالث بشكل تلقائي، حيث يتم تخصيص دعم خاص للأطفال المقصرين لتلافي إعادة السنة المدرسية. ولما كانت المدرسة الأساسية هي أول جهة رعاية اجتماعية خارج نطاق العائلة، لذا فيركز التدريس فيها على مادتي اللغة الألمانية والرياضيات إضافة إلى مواد تكميلية مثل دروس الأشياء، والموسيقى، والتربية الدينية، ويتولى تدريس هذه المواد كافة معلم الصف (الفصل)، ويتم تأهيل هؤلاء المعلمين في معاهد إعداد المعلمين التي تركز على النواحي التربوية، وكثيراً ما يتم تطوير الطرق والأساليب التربوية وفقاً لما يستحدث في علوم التربية والتعليم، وفي بعض المدارس يجري تعليم الأطفال مبادئ لغات أجنبية، وتتبع بعض الأساليب التعليمية الجديدة مثل النشاط الحر، والتعلم المشترك، ومعظم المدارس الأساسية تعتمد نظام الدوام النصفي، وفي بعضها تجري العملية التعليمية في صف واحد لتلاميذ عدة سنوات مدرسية معاً، وهكذا.
ب) المرحلة الثانوية الأولى (المتوسطة)
وتشتمل على المرحلة المتوسطة، والمرحلة الدنيا من المدرسة العالية، وتتفرع إلى: المدرسة الرئيسية Hauptschule، والمدرسة الواقعية Realschule، والمرحلة الأولية من المدرسة الثانوية Gymnasium I، والمدرسة الشاملة Gesamtschule، وتنتهي المرحلة الثانوية الأولى إما بالحصول على شهادة إنهاء المدرسة الرئيسية (وانتهاء الإلزام المدرسي)، أو بالحصول على شهادة الأهلية المتوسطة (مدة الدراسة الكاملة لهذه الشهادة 10 سنوات) وهذه تتيح لحاملها إذا كانت مرفقة بملاحظات التأهيل المقررة الالتحاق بالمرحلة العالية من المدرسة الثانوية، أي Gymnasialstufe 2.
وباختصار فإن التحاق التلميذ بأحد هذه الأنماط المدرسية بعد انتهاء السنة المدرسية الرابعة (أي المدرسة الابتدائية) سيقرر مسيرته المدرسية والتعليمية بصورة عامة بصورة لا تراجع فيها في الأعم الأغلب، لذا فهنالك كثير من النقد الموجه إلى هذا النظام، لأن الحكم على مواهب وقدرات التلميذ في هذه السن المبكرة (سن العاشرة) فيه الكثير من التسرع ويحتمل مخاطر الخطأ والتعسف بإصدار القرار.
وفيما يلي تعريف موجز بكل واحدة من هذه الأنماط المدرسية:
1) المدرسة الرئيسية Hauptschule
تأسست المدارس الرئيسية ومدتها 5 سنوات عام 1964 بموجب اتفاقية عقدت بين الولايات الألمانية سميت باتفاقية هامبورغ، وكانت آنذاك عبارة عن تطوير للمرحلة العالية من مدرسة الشعب Volksschule، وقصد منها منذ البداية أن تحضر التلميذ للتوجه إلى التعليم الحرفي، لذا يركز فيها بشكل واضح على النواحي العملية والتطبيقية، أكثر بكثير من المواد الذهنية النظرية، حيث كان الرأي السائد لدى إنشائها أن تخصص للتلاميذ ذوي القدرات الذهنية المتواضعة، أي أولئك الذين لا يحصلون على تقديرات جيدة في مواد اللغة الألمانية والرياضيات في المدرسة الأساسية Grundschule، لذا فقد توافق سياسيو التعليم في ذلك الوقت على دفع أولائك التلاميذ للتوجه إلى مدارس التعليم المهني في وقت مبكر، أي فور إنهاء مرحلة الإلزام المدرسي، ووجدوا في ذلك تخفيفا من ضغط أعباء الأعداد الكبيرة، التي كانت ربما ستتجه إلى المدارس الواقعية أو الثانوية دون أن تكون مهيأة لذلك، وبطبيعة الحال كان معظم تلاميذ المدرسة الرئيسية من أولاد وبنات الطبقة العمالية والفلاحية الفقيرة، ثم تكاثرت فيها أعداد التلاميذ من أبناء العمال الأجانب والمواطنين من ذوي الخلفيات الأجنبية بحكم ضعفهم باللغة الألمانية لدى التحاقهم بالمدرسة الأساسية، ولظروفهم الاجتماعية التي لا تتيح لهم في أكثر الأحيان من يرعى مسيرتهم المدرسية من أفراد أسرهم، ونظرا للسمعة غير الجيدة لهذا النمط المدرسي قامت معظم الولايات الألمانية بإلغائه تدريجيا، والبقية الباقية من مدارس هذا النمط توجد غالبا في المناطق الريفية من ولايات هيسين، نيدرساكسن، نوردراين ـ ويستفالين، وبادين ـ فيرتينبيرغ، وكذلك في ولاية بافاريا حيث لا تسمح الأنظمة المعمول بها في هذه الولاية بالاستجابة لرغبة أهالي التلاميذ لدى اختيار النمط المدرسي الذي يودون أن يلتحق به أولادهم بعد إنهاء المدرسة الأساسية، بينما قد تلاشى هذا النمط المدرسي في ولايات شمال ألمانيا، وفي العاصمة برلين يقرر أولياء الأمور النمط المدرسي الذي يرغبون بإلحاق أبنائهم وبناتهم به اعتبارا من السنة المدرسية السابعة، لأن مدة المدرسة الأساسية في برلين 6 سنوات، وأما الولايات التي كانت جزءًا من ألمانيا الشرقية فلم يكن لديها نمط المدرسة الرئيسية أصلا، لأنها لم تكن جزءًا من ألمانيا الاتحادية عندما أسس هذا النمط المدرسي عام 1964.
2) المدرسة الواقعية Realschule
أقيمت المدارس الواقعية، ومدتها 6 سنوات محاكاة للمدرسة المتوسطة التي كانت قائمة في مملكة بروسيا، لتكون حلقة تعليمية وسطى بين مدرسة الشعب Volksschule والمدرسة الثانوية Gymnasium، وروعي فيها زيادة كم وحجم المعلومات العامة، ولاقت إقبالا من أبناء الطبقة المتوسطة، حيث قصد من هذا النمط المدرسي أن يفي بمتطلبات تأهيل أعلى بالنسبة للتلاميذ الذين يودون الالتحاق بعد إنهائها بتعليم مهني متقدم، وقد أثبت هذا النمط المدرسي جدارته في تحقيق هذا المطلب، كما راعى التغييرات التي تطرأ على وسائل الإنتاج وسوق العمل، واستجابت مناهجه المعتمدة إلى متطلبات مجتمع الخدمات الحديث، ومن ناحية أخرى فإن الطريق يبقى مفتوحا أمام خريجي هذه المدارس بعد حصولهم على شهادة إنهائها، أي شهادة الأهلية المتوسطة للالتحاق بالمرحلة العالية من المدرسة الثانوية Gymnasium 2، وبعد إنهائها والحصول على شهادة الثانوية العامة Abitur يمكنهم الالتحاق بإحدى الدراسات الجامعية، أو الالتحاق بإحدى الثانويات الفنية المتخصصة Fachgymnasium للحصول على تأهيل مهني رفيع المستوى يحتاجه سوق العمل في بلد صناعي مثل ألمانيا، لذا يلاقي هذا النمط المدرسي إقبالاً متزايداً لتعدد المجالات والفرص المتاحة أمام خريجيه، وتتجه بعض الولايات، التي ما زالت فيها المدارس الرئيسية قائمة للدمج بين المدرسة الواقعية ونموذج معدل ومحسن من المدرسة الرئيسة لزيادة الفرص المتاحة أمام خريجي تلك المدرسة أيضاً.
3) المدرسة الثانوية (المرحلة الدنيا) I Gymnasium
بعد توقيع اتفاقية ديسيلدورف عام 1955 بين وزارات معارف الولايات الألمانية، أصبح مسمى المدارس كافة، التي تعد التلاميذ للالتحاق في ما بعد بالدراسة الجامعية Gymnasium. ويقسم هذا النمط المدرسي إلى مرحلتين المرحلة الثانوية الدنيا وهي جزء من مرحلة المدرسة الثانوية الأولى، ومدة الدراسة فيها 5 سنوات، يلتحق الناجحون في نهايتها إما بالمرحلة الثانوية العالية Gymnasium 2، التي تتابع تأهيلهم للحصول على شهادة الثانوية العامة Abitur تمهيداً للالتحاق بعدها بإحدى الجامعات، وإما ينتقل التلميذ بعد المرحلة الثانوية الدنيا إلى إحدى المدارس الواقعية ليحصل بعد سنتين على شهادة الأهلية المتوسطة بعد إنهائها بنجاح، أو يتجه التلميذ بعد إنهاء المرحلة الثانوية الدنيا إلى إحدى المدارس المهنية برغبته أو برغبة أولياء أموره ليتعلم فيها إحدى المهن بشكل مركز.
وتتميز مناهج المدارس الثانوية بمرحلتيها الدنيا والعالية بالتعمق التدريجي بمواد الثقافة العامة، ويتعلم التلاميذ فيها لغتين أجنبيتين إضافة إلى اللغة الألمانية، وحيث إن الهدف الأساسي من هذا النمط المدرسي هو إعداد التلاميذ للالتحاق بإحدى الدراسات الجامعية، فإن التدقيق ومتابعة قدرات التلميذ وأدائه أشد منه في الأنماط المدرسية الأخرى، وإذا لم يثبت التلميذ جدارة وتقدماً في تحصيله المدرسي يتم تحويله قسراً بقرار من مؤتمر معلمي المدرسة الذي ينعقد مرتين في السنة ـ مرة في نهاية الفصل الأول، وأخرى في نهاية العام الدراسي ـ إلى إحدى المدارس الواقعية، أو حتى إلى إحدى المدارس الرئيسية وفقاً لمستوى تقديراته، لذا يعتبر هذا النمط المدرسي انتقائياً.
4) المدرسة المشتركة الشاملة Gemeinschaftsschule
بدأ هذا النمط المدرسي في برلين الغربية عام 1968 كتجربة مدرسية، والمقصود منه هو تجنب الفصل المبكر بين التلاميذ استناداً إلى أدائهم المدرسي، الذي قد يكون راجعاً إلى محيطهم الاجتماعي، أو ظروف سكنهم في شقق صغيرة وغيرها من العوامل الخارجية، لذا يستعاض في هذا النمط المدرسي عن التصنيف المبكر بتقديم الدعم والمساعدة حتى الفردية وبشكل مركز لتحسين أداء التلاميذ المقصرين، وينتظر من وجود التلاميذ المتفوقين ومتوسطي الأداء مع بعضهم البعض أن يتشجع الأخيرون للحاق بالأوائل وأن يساعدوا بعضهم بعضاً، والموضوع هنا يتعلق بالدرجة الأولى بالتوجه السياسي الاجتماعي، حيث يود أنصاره تقليص الفروق الاجتماعية بين الطبقات، بينما ينتقد آخرون هذا النمط المدرسي ويرون فيه إعاقة للمتميزين، حيث ينتظر منهم مراعاة أداء المقصرين ومتوسطي القدرات، ولم ينته النقاش حول جدوى هذا النمط المدرسي، فله أنصاره ومنتقدوه ليس في ألمانيا فقط، بل في كل أنحاء أوروبا وغيرها من دول العالم وتوجد في ألمانيا حالياً أكثر من 800 مدرسة مشتركة شاملة.
ج) المرحلة الثانوية الثانية Sekundarbereich II
وتشتمل على المرحلة العالية من المدرسة الثانوية Gymnasiale Oberstufe، ومدارس التعليم المهني العالية، ومدارس النظام الثنائي (مدارس التعليم المهني العالي، والمدارس المهنية)، والسنة المهنية التمهيدية، والمدرسة المتخصصة العالية «الفنية»، والثانوية المهنية. وسنكتفي في هذا المقال بشرح مفصل عن (المرحلة العالية من المدرسة الثانوية Gymnasiale Oberstufe):
ومدتها ثلاث سنوات، بحيث يلتحق بها تلاميذ المرحلة الثانوية الأولى اعتباراً من السنة المدرسية العاشرة وهي سنة مشتركة عامة، ثم يتقسمون إلى شعب تخصصية في السنتين التاليتين، أي الحادية عشرة والثانية عشرة، وبنهاية السنة الثانية عشرة يحصل من ينجح منهم في الامتحان النهائي على شهادة الثانوية العامة الألمانية (Abitur) التي تؤهلهم للالتحاق بالدراسة الأكاديمية في إحدى الجامعات. ومن الجدير بالذكر أن تلاميذ السنتين الأخيرتين لهم حرية اختيار المواد التي يودون التخصص فيها وتعتبر بالنسبة لهم نقاط ثقل وتعمق تحضيراً للفرع الدراسي الجامعي الذي يرغبون بدراسته في المستقبل، غير أن أكثر الولايات الألمانية تتجه مؤخرا إلى تقليص الخيارات التخصصية وتوسيع مساحة التعليم الأساسي المشترك، بحيث لم يعد بمقدور التلاميذ الاستغناء في الامتحان النهائي عن مواد اللغة الألمانية، والرياضيات، واللغة الإنجليزية واللغة الأجنبية الثانية كما كان عليه الوضع سابقا، بل أصبحت مواد أساسية وإلزامية للجميع. كما تتناول جهود تطوير هذه المرحلة المدرسية إدخال مواد قدرات تتعلق بفروع التعليم المهني، حيث لوحظ اتجاه أعداد معتبرة من حملة شهادة الثانوية العامة إلى الالتحاق بعدها بالمدارس المهنية العالية Fachoberschule للإسراع بمزاولة المهن التي يتعلمونها فيها، أو بالمدارس العليا المتخصصة أي ما يسمى Fachhochschulen، وهي مؤسسات تعليمية بعد المدرسية وتسمى باللغة الإنجليزية جامعات علوم تطبيقية University of Applied Sciences، أسست في العقود الأخيرة، بحث تركز في برامجها الدراسية على النواحي العملية والتطبيقية، لتغطية حاجات سوق العمل لحملة درجتي البكالوريوس والماجستير من غير خريجي الجامعات التقليدية، التي تركز على الدراسات العلمية البحتة والبحثية، مما يطيل فيها مدة الدراسة. وتختلف نسبة الحاصلين على شهادة إنهاء الدراسة الثانوية (Abitur) من خريجي المدارس الألمانية بين ولاية وأخرى فبينما لا تتعدى نسبتهم في ولاية بافاريا الجنوبية 34.50 % منهم 22.50 % من حملة شهادة الثانوية العامة، و12 % من حملة الشهادة الثانوية المتخصصة (الفنية)، تصل نسبة الحاصلين على شهادة إنهاء الدراسة الثانوية في ولاية نورد راين ـ ويسفالين إلى 53 %، بينهم 32 % من حملة شهادة الثانوية العامة، و21.4 % من حملة شهادة الثانوية المتخصصة (الفنية).
وكما ذكرنا سابقا فليست أنظمة المدارس موحدة تماما في ألمانيا فمثلا مدة المرحلة العالية من المدرسة الثانوية في ولاية ساكسين وتيرينغين سنتان فقط، أي السنتان المدرسيتان الحادية عشرة والثانية عشرة.
وبصورة عامة فإن من يلتحقون بالمرحلة العالية من المدرسة الثانوية من خريجي المدارس الواقعية يدخلونها في السنة المدرسية الحادية عشرة.
د) مدارس التعليم المهني Berufsbildende Schulen
توجد في ألمانيا 9 أنماط من مدارس التعليم الحرفي والمهني وفقا للمستوى التعليمي، ومدة الدراسة، والتخصصات الحرفية والمهنية المختلفة، ووفقاً للنمط المدرسي الذي أنهاه التلميذ قبل التحاقه بإحدى مدارس التعليم الحرفي والمهني، فمنها ما مدته سنة واحدة، وهذا النمط مخصص لتلاميذ المدرسة الرئيسية، الذين لم يلتحقوا بعد إنهائها بإحدى مدارس تعليم الحرف والمهن النظامية، وتسمى هذه السنة سنة التأهيل المهني الأساسية، بحيث يحصل التلميذ على المبادئ الأساسية المطلوبة للعمل كعامل في إحدى الحرف أو المهن، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فيغطي بها جزءًا من الإلزام المدرسي الجزئي الذي يستمر في ألمانيا حتى إنهاء السنة الثامنة عشرة من عمر اليافعين. وأما مدارس التأهيل الحرفي والمهني النظامية فمددها مختلفة وفقاً لمستوياتها التعليمية، والمدرسة المهنية العادية Berufsschule تتبع النظام الثنائي أي التعليم المدرسي النظري المتضمن لمعلومات عامة ومتخصصة في الحرفة أو المهنة التي يود التلميذ ممارستها بعد إنهاء الدراسة بنجاح، إضافة إلى التعليم العملي في إحدى الورشات أو المشاغل التي تزاول تلك المهنة أو الحرفة.
وكما سبق ذكره فإن مستويات مدارس التعليم المهني تتدرج لتصل إلى ما يسمى الثانوية المهنية Berufliches Gymnasium التي تنتهي بشهادة الثانوية العامة المهنية (الفنية) في مختلف التخصصات من التخصصات التقنية إلى التجارية، والاجتماعية، والزراعية، والتقنية الحيوية، وعلوم التغذية، وغيرها، وخريجو هذا النمط المدرسي يحصلون على شهادة الأبيتور المهني بعد قضاء ثلاث عشرة سنة مدرسية (منذ الصف الأول في المدرسة الأساسية حتى الصف الثالث عشر في المدرسة الثانوية المهنية)، وهذه الشهادة تؤهلهم إما لمزاولة المهنة التي تعلموها في المعامل والورشات والمشاغل المختلفة، وإما للالتحاق بإحدى الدراسات الجامعية.
وهنالك نمط جديد أدخل على النظام التعليمي المدرسي في العقود الأخيرة ويسمى الكوليج المهني Berufskolleg أو Kollegschule، وتتضمن مناهجه مواد مشابهة لمواد المرحلة العالية من المدرسة الثانوية إضافة إلى نقاط ثقل نظري وعملي في تخصص مهني معين، بحث يتمكن الخريج من مزاولة تلك المهنة بعد تخرجه مباشرة، أو الالتحاق بإحدى الدراسات الجامعية الملائمة.
هـ) مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة Sonderschulen
كما توجد أنماط مدرسية أخرى منها المدارس المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة من مختلف الإعاقات البدنية أو النفسية، أو لمن لديهم صعوبات تربوية مثل الميل للصخب والعنف، أو من لديهم صعوبات في الاستيعاب والتعلم لأسباب بيئية اجتماعية وغيرها، وهذه المدارس تسمى Sonderschule، غير أن هذا النمط المدرسي يواجه انتقادات من بعض الخبراء التربويين، الذين يرون في فصل هذه الفئة من التلاميذ عن غيرهم تمييزاً غير مقبول لهم في المجتمع، وهنالك تجارب مدرسية تتجه إلى دمج الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة مع بقية التلاميذ في الصفوف المدرسية مع تدعيم تلك الصفوف بمعلمين إضافيين متخصصين في تعليم هذه الفئة من التلاميذ.
و) المدارس الخاصة Privatschulen
توجد في ألمانيا أكثر من 2500 مدرسة خاصة من مختلف المستويات والأنماط المدرسية التي سبق ذكرها بالنسبة للمدارس العامة، ويلتحق بهذه المدارس الخاصة 10 % من مجموع التلاميذ الألمان (أي ما يربو على نصف مليون تلميذ وتلميذة)، وأكثر هذه المدارس الخاصة تابعة لإحدى الكنيستين الأكبر في ألمانيا، أي إما للكنيسة الكاثوليكية الرومية ورهبانياتها المختلفة، أو للكنيسة الإنجيلية اللوثرية وجمعياتها، أو لغيرهما من الكنائس والهيئات الدينية المعترف بها من قبل الدولة الألمانية مثل الهيئة الدينية اليهودية إلخ، وتغطي الدولة الألمانية حوالي 80 % من نفقات المدارس الخاصة للحيلولة دون فرض رسوم مدرسية عالية على التلاميذ من قبل الجهات التي تدير تلك المدارس وتشرف عليها، تنفيذاً لمبدأ الحيلولة دون الفصل الطبقي الاجتماعي بين الأطفال المقرر في ألمانيا.
كما أن هنالك أنماطاً من المدارس الخاصة، التي تتبع مناهج وطرق تعليمية وتربوية إصلاحية مطورة مثل مدارس والدورف Waldorfschulen، ومدارس التربية الريفية الداخلية Landerziehungsheime، ومدارس مونتيسوري Montessorischulen، ومدارس منهاج يينا Jenaplan-Schulen، ومدارس التربية الإصلاحية البديلة Alternativschulen، إلخ.
وعلى العموم رغم أن عدد المدارس الخاصة يعد صغيراً قياساً بعدد المدارس العامة، غير أنها تقوم بدور طليعي فيما يتعلق بتحديث وتطوير المناهج والأساليب التربوية والتعليمية، حيث إن كثيراً من الأساليب الجديدة والتطويرية قد طبقت كتجارب مدرسية في المدارس الخاصة ثم تم إدخالها وتطبيقها فيما بعد في المدارس العامة بعد أن أثبتت نجاحها ونجاعتها، وهذا مرده إلى سهولة اتخاذ القرارات من قبل الجهات المشرفة على المدارس الخاصة، بينما يكون الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً بالنسبة للإدارات التعليمية العامة بسبب العوائق البيروقراطية والتنافس السياسي بين الأحزاب ذات التوجهات الاجتماعية المختلفة.
الخلاصة
ختاماً، تجدر الإشارة هنا إلى أن النقاشات الدائمة والمستمرة حول النظام التعليمي المدرسي الألماني يتنازعها اتجاهان يكادان أن يكونا متعاكسين، فالأول يرى أن كثرة الأنماط المدرسية وتنوعها والتفريق المبكر بين التلاميذ يعتبر من نقاط ضعف وتعثر هذا النظام التعليمي، ويدعون إلى تبني نظام المدرسة الموحدة الشاملة، لاسيما وأن الدول التي تتبنى هذا النمط المدرسي تحرز نتائج أفضل في دراسات برنامج تقييم أداء التلاميذ الدولي (PISA) التي تنشر منذ عام 2000 بشكل دوري كل ثلاث سنوات وتشرف عليها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوروبي OECD التي تضم في عضويتها 36 دولة، بينما تسجل نتائج التلاميذ الألمان مستويات متوسطة. كما يدعو أنصار هذا التوجه إلى تقليل حجم مواد المنهج المدرسي وإلغاء بعض المواد، مع إعطاء حرية أكبر للمعلمين لتقرير المناهج الملائمة لتلاميذهم أكثر، مع رفع مستوى تأهيل المعلمين ليكونوا على قدر المهام الملقاة على عواتقهم.
وفي المقابل، هنالك فئة تدعو إلى تعميق الفصل المبكر بين التلاميذ بمستوياتهم المختلفة، مع تعزيز قدرات المتفوقين منهم، وزيادة نقاط الثقل والتعمق في المنهج التعليمي، مع إعادة النظر في مناهج إعداد المعلمين وزيادة الاهتمام بالمضامين العلمية الموضوعية فيها على حساب الجوانب التربوية، ويبدو أن السياسة في بعض الولايات الألمانية قد أخذت في السنوات الأخيرة تقترب من آراء أصحاب التوجه الثاني.
وبغض النظر عن هذه النقاشات وأيها الأصح والأجدر بالتطبيق فإن نظام التعليم المدرسي الألماني قد أثبت جدواه وجدارته في السابق وحتى الآن بحيث غدت ألمانيا بفضله الدولة الصناعية المصدرة الأولى في العالم، كما أنها الاقتصاد الرابع بعد ثلاث دول كلها أكبر منها مساحة وأكثر سكاناً بمراحل.. ولكن السؤال المطروح وبإلحاح: هل سيؤدي نظام التعليم المدرسي الألماني نفس الدور الرائد ويثبت صلاحيته للاستجابة لتحدي المتغيرات الكبيرة والمتلاحقة في المجالات العلمية والمعرفية والصناعية أيضاً في ضوء العولمة وسيطرة الأنظمة الرقمية في المستقبل؟